البرامج الانتخابية السورية: بين شات جي بي تي والأحلام الوردية
الكاتبة : صفا عبد التركي
يبدو أن موسم الانتخابات عندنا تحول إلى مهرجان للأحلام الوردية أكثر مما هو سباق انتخابي. المرشحون يملؤون الفضاء بالوعود: دستور جديد، توزيع عادل للثروات، إصلاح القضاء، تنمية مستدامة، تمكين الشباب والنساء، وحتى إعادة إعمار سوريا من الباب للمحراب. باختصار، برامج تليق بدولة اسكندنافية لا بسوريا الخارجة من حرب وفساد مزمن. المضحك المبكي هنا أن هذه الطموحات الضخمة تُطرح في بلد لم يعرف منذ سنوات استقرارًا حقيقيًا، وبرلمان يشبه غرفة صدى أكثر من كونه مؤسسة تشريعية رقابية. القارئ لا يسعه إلا أن يبتسم، أو يرفع حاجبه بدهشة، وهو يتخيل سوريا تتحول بين ليلة وضحاها إلى نسخة مثالية من دول شمال أوروبا، بينما الواقع يقول شيئًا آخر تمامًا.
المسرح الانتخابي يتكرر
من يراقب هذه البرامج يجد نفسه أمام نسخة مكررة لما اعتادناه منذ عقود. الخطاب مألوف حتى النخاع: وعود بالإعمار والتنمية، محاربة الفساد، إصلاح التعليم، تمكين الشباب والنساء. لكن لو نظرنا إلى تاريخ البرلمان السوري القريب، سنجد أن معظم نواب الأمس رفعوا نفس الشعارات، ولم يخرج من تحت القبة إلا قوانين تخدم السلطة وتعمق الفساد، بينما المواطن ظل أسيرًا للوعود الفارغة، وشوارع المدن تغرق في مشاكل لم تُحل. المسرح الانتخابي يبدو وكأنه يكرر نفسه كل دورة، بنفس الممثلين، مع تغيير طفيف في أسماء الأحياء والوعود، وكأن التاريخ السياسي السوري تحول إلى مسرحية هزلية مكتوبة على ورق فاخر، تُعرض سنويًا لتسلية جمهور يعرف النهاية مسبقًا.
لماذا يلجأ المرشح إلى شات جي بي تي؟
الأمر الأكثر إثارة للدهشة والسخرية في هذه البرامج هو التشابه المريب في اللغة والأسلوب بين مرشح وآخر، وكأنها خرجت من مصنع واحد، مطبوعة بنفس القالب. هنا يبرز السؤال الكبير: هل استعان بعض المرشحين بشات جي بي تي لكتابة برامجهم؟ الاحتمال وارد بشدة، فالخطاب المنمق والعبارات العامة مثل “تعزيز المشاركة المجتمعية” و“تمكين الفئات الهشة” يحمل بصمة الذكاء الاصطناعي أكثر من بصمة المواطن الذي يعرف أزماته اليومية. استخدام هذه الأداة ليس مجرد مسألة سرعة وسهولة، بل يعكس محاولة لتجميل المشهد وإظهار المرشح بمظهر عصري مثقف، بينما هو في الواقع منفصل عن حياة الناس اليومية. وما يزيد الطين بلة هو الافتراض الساذج بأن الشعب لن يلاحظ النسخ واللصق، وكأن المواطن السوري لا يتذكر أزمات الكهرباء والمياه أو لم يعش انهيار الاقتصاد والفوضى الإدارية على مدار السنوات الماضية. إن الاستناد إلى الذكاء الاصطناعي بهذا الشكل يكشف استخفافًا صريحًا بالعملية السياسية ويطرح تساؤلات جدية: كيف سيدافع هذا المرشح عن مصالح الناس إذا لم يستطع صياغة أفكاره بنفسه، وإذا كان خطاب برنامجه مجرد كلمات منسوخة بعناية؟
أحلام وردية.. أم كوابيس متجددة؟
الوعود الانتخابية تبدو أحيانًا كأنها “خطط خمسية” للأمم المتحدة، تشمل إصلاح القضاء، محاربة الفساد، ضمان حقوق الإنسان، تنمية مستدامة وتوزيع عوائد النفط بطريقة عادلة بين المحافظات. لكنها أحلام وردية تصطدم بصخرة الواقع السوري، حيث البرلمان لم يجرؤ يوماً على ممارسة رقابة فعلية، ولم يفرض أي إصلاح على مسؤول فاسد، ولم يقدم حلًا لأزمات المواطنين اليومية. الحديث عن العدالة الانتقالية يبدو أقرب إلى رواية خيالية في بلد شهد اعتقالات وانتهاكات ممنهجة، وإفراج عن مجرمين تلطخت أيديهم بالدماء، بينما وعود التنمية والإعمار تتبخر أمام عجز الحكومة عن توفير أبسط مقومات الحياة. البرامج الانتخابية تتحول بهذا إلى كوابيس متجددة؛ فهي تقدم صورة مثالية لسوريا المستقبل وكأنها سنغافورة العصر، لكنها لا تقدم أدوات عملية لتطبيقها. المشهد يصبح هزليًا أكثر حين يقرأ المرء أن بعض المرشحين يعدون بتوزيع عوائد النفط على المحافظات أو بتوفير كهرباء مستمرة في المدن، بينما كل المؤشرات العملية تشير إلى عجز الدولة عن تأمين الاحتياجات الأساسية، وكأن المرشح يقدم للناخبين مشهدًا كوميديًا بكلفة سياسية عالية، يمزج بين الطموح المستحيل والواقع المؤلم.
المقارنة مع تجارب سابقة تكشف أن ما يحدث اليوم ليس جديدًا، بل هو إعادة تدوير لمسلسل الوعود الفارغة. الانتخابات السابقة شهدت نفس الشعارات: تحسين المعيشة، محاربة البطالة، تنمية متوازنة، ووعود لإصلاح التعليم والخدمات، ومع ذلك كان الواقع مختلفًا تمامًا، إذ أدى فشل الحكومة إلى هجرة مئات الآلاف من الشباب بحثًا عن فرص حياة حقيقية، وارتفاع جنوني في الأسعار، وانهيار الخدمات الأساسية، بينما البرلمانات السابقة ظلت تصفق بلا أي فعل حقيقي، وتصفق للمجرم على قتل وتهجير شعبه. اليوم يعاد إنتاج نفس الخطاب، لكن مع “نكهة” ذكاء اصطناعي حديثة وبرشة ديمقراطية، ممزوجة بكلمات معسولة عن تاريخ ثوري يشجع على التصويت، لتعطي للناخب شعورًا بالحداثة، بينما الجوهر بقي كما هو، مسرحية هزلية يكررها المسؤولون بنفس الطريقة، مستخدمين شعارات مزخرفة لتغطية عجزهم، وكأن هذه المناصب تفرض تقمص شخصية السياسي الكاذب، صاحب الوعود الوهمية . يبقى السؤال الحقيقي: هل ستتمكن البرلمانات القادمة من تحويل هذه الوعود إلى واقع ملموس، أم أننا أمام دورة مستمرة من الوعود الكاذبة، تعيد إنتاج الماضي في ثوب أكثر أناقة لغويًا وأقل صدقًا سياسيًا؟ وفي النهاية، كما يقول المثل الشعبي السوري: “كل شي على المغتسل يبان”، والوقت وحده كفيل بكشف مدى صدق هذه البرامج، وهل هي أحلام وردية أم مجرد مسرحية هزلية جديدة.