سوريا بين برلمان الانتقال وتحديات الاقليات: من يعطل الاستقرار؟
الكاتب : محمد الحمود البليبل
بعد عقدين من الصراع المستمر، تدخل سوريا مرحلة سياسية جديدة مليئة بالتحديات. بين برلمان انتقالي وأقليات مسلحة تتحكم في مناطق واسعة، يبقى الاستقرار الوطني رهناً بتوازن القوى على الأرض وقدرة الحكومة على فرض سيادتها.
سوريا بين برلمان الانتقال وتحديات الاقليات: من يعطل الاستقرار؟
تبدو سوريا اليوم وكأنها تحاول النهوض من تحت ركام عقدين من الحرب، وهي تدخل مرحلة سياسية جديدة عنوانها البرلمان الانتقالي وسعي الحكومة المؤقتة إلى بناء مؤسسات دولة ما بعد الاسد. لكن ما إن تفتح صفحة جديدة حتى تتكشف صفحات قديمة لم تغلق بعد؛ اقليات مسلحة وسياسية تتصرف كأنها دول داخل الدولة، واطراف ترى في الاستقرار تهديدا لوجودها اكثر مما تراه مصلحة وطنية.
في العمق، لا تكمن معضلة المرحلة الانتقالية في ضعف الحكومة المؤقتة وحدها، بل في القوى التي تعمل على ابطاء تشكل الدولة الجديدة حفاظا على امتيازاتها او سلطتها المحلية. ثلاث كتل رئيسية تتحمل العبء الاكبر من هذا التعطيل: قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، والتيارات الدرزية في السويداء، وبقايا النظام الامني والعسكري القديم.
منذ سنوات، رفعت قوات سوريا الديمقراطية شعار الادارة الذاتية الديمقراطية بوصفها مشروعا للحكم المحلي. لكن مع سقوط النظام المركزي وبدء تشكل السلطة الجديدة، تحول هذا المشروع إلى عقبة امام اي توحيد فعلي لمؤسسات الدولة. فقسد اليوم تملك اقتصادا خاصا، وقوات امن منفصلة، وعلاقات اقليمية مستقلة مع واشنطن واحيانا مع موسكو، دون اي التزام حقيقي بمسار الدولة الجديدة. وبينما تتحدث قيادتها عن اللامركزية الديمقراطية، يتهمها كثير من الفاعلين المحليين بممارسة اقصاء سياسي وقومي، خصوصا تجاه المكون العربي في الرقة ودير الزور، ما ولد بيئة خصبة للتوترات القبلية والعسكرية التي تفجرت اكثر من مرة هذا العام.
اما السويداء، التي لطالما شكلت نموذجا للاستقرار الاجتماعي والرفض المتوازن للنظام والمعارضة على السواء، فقد دخلت اليوم مرحلة من الانعزال السياسي غير المعلن. فالمجموعات المسلحة المحلية، تحت شعار حماية الهوية الدرزية، باتت تتحكم بالمشهد الامني والاقتصادي، رافضة اي تواصل فعلي مع مؤسسات الدولة المؤقتة. وما يزيد الخطورة ان بعض القيادات الدرزية بدأت تتحدث علنا عن نموذج حكم ذاتي على الطريقة اللبنانية او الكردية، مستفيدة من غياب الدولة وضعف المركز. بهذا المعنى، تحولت السويداء الهادئة إلى نقطة فراغ سياسي وامني تمنع اكتمال مشروع الاستقرار في الجنوب.
في الوقت الذي تتصارع فيه القوى الجديدة على رسم مستقبل البلاد، لا تزال بقايا الاجهزة الامنية والعسكرية للنظام السابق حاضرة في بعض المناطق، مستفيدة من ضعف البنية الادارية الجديدة. هذه الشبكات، التي راكمت خبرة في التحكم والابتزاز، تمارس نفوذا خفيا عبر الاقتصاد والتهريب وشبكات الولاء المحلية، وتحاول باستمرار افشال اي اعادة بناء حقيقية للمؤسسات، خشية ان تؤدي إلى محاسبة او كشف لملفات الفساد السابقة.
ما يجمع هذه القوى، رغم اختلافها الايديولوجي والطائفي، هو انها تتعامل مع الدولة السورية الوليدة بوصفها كيانا مؤقتا يمكن التفاوض معه، لا بوصفه وطنا يجب الاندماج فيه. قسد تضع شروطها الفيدرالية، والسويداء تمارس استقلالا صامتا، وبقايا النظام تعمل من وراء الستار لتقويض الثقة باي سلطة جديدة. وهكذا تبقى سوريا عالقة بين ثلاث سلطات: سلطة الدولة الرسمية، وسلطات الامر الواقع، وسلطة الخارج التي تتغذى على هذا التوازن الهش.
نجاح البرلمان الانتقالي الجديد في اداء دوره التأسيسي لن يتوقف على النصوص التي يكتبها، بل على قدرته في فرض مرجعية الدولة على الاطراف المتشظية. ان لم تحسم علاقة المركز بالاقليات المسلحة والمناطق المستقلة، فستبقى كل محاولة لاعادة بناء سوريا محكومة بالفشل المسبق. فالاستقرار في النهاية ليس قرارا دوليا او وثيقة دستورية، بل قبولا جماعيا بمرجعية الدولة الواحدة. وحتى الآن، يبدو هذا القبول هو الغائب الاكبر في المشهد السوري.
يبقى السؤال الاهم: هل ستتمكن الدولة السورية الجديدة من فرض سيادتها على الاقليات المسلحة والمناطق المستقلة، ام ستظل البلاد اسيرة لتوازن هش يعطل اي امكانية لبناء وطن جامع ومستقر؟