السويداء بين الدولة والمجتمع: قراءة في مشهد الجنوب السوري

فريق التحرير

تبدو السويداء اليوم أشبه بمرآة عاكسة لوجه الدولة السورية بعد أكثر من عقد على الحرب. محافظةٌ كانت تُعرف بهدوئها النسبي، صارت بؤرة توتر يتقاطع فيها الأمن بالسياسة، والمجتمع بالهوية، والداخل بالإقليم. فمن تبادل الأسرى إلى الإعدامات الميدانية، ومن خطابات الحكومة إلى تصريحات رجال الدين، يتكشف مشهدٌ شديد التعقيد تُختبر فيه حدود السلطة، ومعنى الانتماء، وإمكان التعايش في وطنٍ تتآكل فيه فكرة الدولة ذاتها.

من التبادل إلى التصعيد – البدايات التي لم تهدئ

بدأت فصول الأحداث حين اندلعت اشتباكات بين مجموعات درزية وأخرى من العشائر العربية في ريف السويداء الشرقي. كان الحدث في بدايته محليًا، لكنه سرعان ما اكتسب أبعادًا وطنية بعد الإعلان عن اتفاق لتبادل الأسرى بإشراف الهلال الأحمر السوري. شملت العملية الإفراج عن أربعة وثلاثين من أبناء العشائر مقابل اثنين من أبناء السويداء.

بدا التبادل حينها بارقة أملٍ لوقف الدماء، غير أن خلفه كانت تتراكم أسئلة عن الجهة التي تفاوضت فعلًا، وعن دور الحكومة التي ظهرت كوسيط أكثر من كونها سلطة. وفي الكواليس، فُسر ذلك بأنه محاولة من دمشق لاستعادة زمام المبادرة في محافظة طالما تمسكت باستقلالها المجتمعي والسياسي.

إلا أن هذا الهدوء الهش لم يدم طويلًا. سرعان ما انتشرت تسجيلات تُظهر إعدامات ميدانية لمقاتلين وعناصر محلية، ما فجر غضبًا واسعًا، وأعاد إلى السطح الانقسام بين من يرى في الفصائل الدرزية حاميًا للمنطقة، ومن يتهمها بممارسة سلطات خارج القانون.

بين صوت المشيخة وصوت الدولة – روايتان متصادمتان

في خضم الفوضى، خرج شيخ العقل حكمت الهجري بخطابٍ صاخبٍ حمل نبرة التحدي والحزن معًا، قال فيه:

«يا أمة التوحيد في كل مكان، هذه وقفة عز… نحن نتعرض لحرب إبادة شاملة».

كانت عباراته كافية لإشعال موجة تضامن واسعة في السويداء، لكنها أيضًا عززت سردية الانفصال الرمزي عن خطاب الدولة، إذ بدت الطائفة وكأنها تخوض معركتها الخاصة دفاعًا عن الوجود، لا عن الجغرافيا فقط.

في المقابل، حاول محافظ السويداء مصطفى البكور أن يضبط نغمة الخطاب الحكومي قائلًا:

«يجب حصر السلاح في يد الدولة… أي سلاح لا يكون في إطار الدولة فهو خارج عن القانون».

هذا التصريح بدا ظاهره دعوة للتهدئة، وباطنه تذكيرٌ بسلطة الدولة، أو على الأقل بما تبقى منها في الجنوب. لكنه لم يُقنع كثيرين من أبناء المنطقة الذين رأوا فيه تأكيدًا لاستمرار الوصاية الأمنية بدل الشراكة الوطنية.

وبين الروايتين، تقف السويداء معلقة بين سلطةٍ رسمية فقدت ثقة الناس، ومجتمعٍ يحاول أن يصوغ شكلًا من الإدارة الذاتية لا يعترف به المركز.

دور الإقليم والبعد الإسرائيلي – الجنوب ساحة الرسائل

لم تكن السويداء يومًا بعيدة عن رقعة الصراع الإقليمي. فكل توترٍ فيها يثير قلق الأردن جنوبًا، ويجذب عين إسرائيل غربًا. الإعلام الإسرائيلي تناول الأحداث الأخيرة بوصفها تصدعًا جديدًا في جدار سيطرة دمشق، فيما تحدثت تقارير عربية عن دعمٍ غير مباشر لفصائل محلية من قبل أطراف إقليمية تسعى لاستخدام الجنوب كورقة ضغط سياسي.

في الوقت نفسه، اعتبرت الحكومة السورية أن ما يجري هو مؤامرة مدعومة لتقويض الدولة، وفق تصريح وزير الخارجية أسعد الشيباني.

لكن القراءة الواقعية تُظهر أن الجنوب بات مساحة اختبار لتوازنات جديدة: إسرائيل تريد حدودًا هادئة بلا نفوذ إيراني، والأردن يسعى لضبط التهريب، ودمشق تحاول أن تبقي على ما تبقى من رمزية السيادة. أما السويداء ذاتها، فتجد نفسها محشورة بين رغبات الخارج وتناقضات الداخل.

تسلسل الأحداث – حين تحول الزمن إلى جرحٍ مفتوح

يمكن القول إن الشرارة الأولى اندلعت في أواخر حزيران حين وقعت اشتباكات متفرقة في ريف السويداء الشرقي بين مجموعات عشائرية وأخرى من الفصائل المحلية. ثم في مطلع تموز توسعت المواجهات بعد مقتل عددٍ من المقاتلين من الطرفين، ليتدخل رجال الدين في محاولة للوساطة.

منتصف تموز شهد التبادل الأول للأسرى، الذي قوبل بارتياحٍ حذر. لكن ما إن أُفرج عن الموقوفين حتى تسربت مقاطع الإعدامات الميدانية، لتندلع احتجاجات في قرى عدة مطالبة بمحاسبة المسؤولين.

وفي الأسبوع الثالث من الشهر، أصدر حكمت الهجري خطابه الشهير الذي اعتبرته الحكومة تحريضًا، بينما رد المحافظ البكور ببيان يدعو للوحدة الوطنية وضبط السلاح.

ثم جاءت زيارة وفد من وزارة الداخلية أواخر الشهر كمحاولة لاحتواء الأزمة عبر لقاءات مغلقة مع وجهاء السويداء، لكنها لم تُفلح في تبديد القلق الشعبي.

وهكذا، من حدثٍ محلي محدود إلى ملف وطني متفجر، مضى الزمن كأنه يكرر ذاته، محملًا بالدم والبيانات والاتهامات، بلا نهاية واضحة.

البعد الإنساني – ما بين الصبر والخوف

بعيدًا عن التصريحات والسياسة، يقف أهل السويداء في مواجهة واقعٍ قاسٍ: انقطاع الكهرباء، ندرة المياه، انهيار الخدمات، وتزايد الهجرة نحو الشمال أو الخارج. خلف كل مواجهةٍ مقاتلٌ غائب وأم تنتظر خبرًا لا يأتي.

حين دعا المحافظ إلى إصلاح ذات البين وتأليف القلوب، بدا كمن يتحدث من وراء زجاجٍ سميك لا يسمع صداه أحد. فالأهالي تعبوا من الدعوات النظرية، وهم يريدون حلولًا تضع حدًا للفوضى وتعيد الطمأنينة.

ومع ذلك، لا يمكن تجاهل إشارات صغيرة للأمل: مبادرات محلية للتهدئة، لجان مصالحة أهلية، محاولات لإحياء النشاط المدني، وحراك نسوي بدأ يطالب بأن تكون للنساء كلمة في صنع السلام بعد أن دفعن ثمن الحرب.

في السويداء، لم يعد السؤال من انتصر، بل ماذا بقي من الوطن في نفوس أبنائه. لقد تحولت الجغرافيا إلى مرآة للذاكرة، والذاكرة إلى عبءٍ على الجيل الجديد الذي لم يعرف من الدولة سوى الحواجز والبيانات. ومع ذلك، يبقى الأمل قائمًا في أن يتحول هذا الألم إلى وعي، وأن تنتقل السويداء من مربع الغضب إلى ساحة بناءٍ وطني حقيقي، يشارك فيه الجميع دون تمييز.

هل يمكن أن تنجح المحافظة التي صمدت عقودًا أمام الانقسام في أن تكون منطلقاً لمصالحةٍ سوريةٍ أوسع؟ أم أنها ستبقى جرحاً مفتوحًا في جسد وطنٍ أنهكه الاستبداد والتجاهل؟