اتفاق أم تحول استراتيجي؟ كواليس اندماج “قسد” في هيكل الجيش السوري
فريق التحرير
منذ أسابيعٍ تتسارع وتيرة الأخبار حول لقاءاتٍ بين ممثلين عن “قوات سوريا الديمقراطية” ووفودٍ أمنيةٍ وعسكريةٍ من دمشق، في ما يشبه مشهدًا سياسيًا جديدًا يتكون في شمال وشرق البلاد. فبعد سنواتٍ من القطيعة، والتوتر، والاشتباك غير المباشر، يبدو أن الطرفين يتجهان نحو صيغة تفاهمٍ تُمهد لاندماجٍ تدريجي لـ“قسد” داخل هيكل الجيش السوري.
لكن هل نحن أمام اتفاقٍ تكتيكي محدودٍ بضرورات الميدان، أم أمام تحول استراتيجي يعبر عن تغير في موازين القوى ومفهوم “الوطنية” داخل سوريا ما بعد الحرب؟
المصالح المتقاطعة: الضرورة قبل القناعة
يدرك كل من دمشق و“قسد” أن الطرف الآخر ليس خيارًا مثاليًا، بل هو خيار الضرورة. فالنظام السوري الحالي، بعد أكثر من عقدٍ من الحرب، لم يعد يمتلكُ القدرةَ البشريةَ ولا المالية لاستعادة السيطرة الفعلية على المناطق الخارجة عن نفوذه. في المقابل، وجدت “قسد” نفسها بعد تقلص الاهتمام الأمريكي، وتبدل مواقف واشنطن، أمام فراغٍ استراتيجي قد يهدد وجودها.
من هنا، برز خيار التفاهم كخط دفاعٍ للطرفين: النظام يريد الوصول لـ “الشرعيةِ الرمزية” على كامل الجغرافيا السورية ولو شكليًا، و“قسد” تسعى إلى حماية مكاسبها السياسية والإدارية ضمن أي تسويةٍ مقبلةٍ عبر الاندماج المنضبط في مؤسسات الدولة.
اللافتُ أن المفاوضات لم تعد تدور حول “القبول أو الرفض”، بل حول “الشكل والمضمون”. أي أن السؤال لم يعد: هل ستندمج قسد؟ بل: كيف؟ وتحت أي شروطٍ، وبأي ضماناتٍ، وضمن أي صلاحياتٍ للقياداتِ المحلية؟
فـ“قسد” لا تريد ذوبانًا كاملًا داخل المؤسسة العسكرية التابعة للنظام، بل تسعى إلى نموذجٍ مزدوجٍ أشبه بـ“قواتٍ محلية ضمن الجيش الوطني”، تملك استقلالًا نسبيًا في إدارة مناطقها، مقابل الاعتراف الرسمي بها كجزءٍ من الدولة.
المخاوف الكامنة: ذاكرة الدم ومخاطر السيطرة
ورغم الحديث عن “اندماجٍ وطني” و“جيشٍ موحدٍ”، فإنّ جراحَ الماضي لم تلتئم. فالعلاقةُ بين “قسد” ودمشق ليست مجرد خلافٍ سياسي بل ذاكرةٌ من الصراع العسكري والاتهامات المتبادلة. يرى النظام في “قسد” مشروعًا انفصاليًا تدعمهُ واشنطن، بينما ترى “قسد” أن النظام هو من فتح الباب أمام تمدد الإرهاب ثم استغله لقمع المعارضة.
إن المخاوف الحقيقية لدى قيادات “قسد” لا تتعلقُ فقط بفقدان السيطرة العسكرية، بل بفقدان الثقة. فالتاريخ السوري حافلٌ بأمثلة الاتفاقات التي أُبرمت ثم تم التنكر لها. كما أن اندماج عناصر “قسد” في جيشٍ ما يزالُ خاضعًا لبنية الولاء السياسي والأمني للنظام، قد يعرضهم لتصفيةٍ تدريجيةٍ تحت غطاءِ “إعادة الهيكلة”.
في المقابل، تُدرك دمشق أن “قسد” ليست كيانًا صغيرًا يمكن استيعابه بسهولة. فالقوات تمتلك نحو خمسين ألف مقاتلٍ، إضافًة إلى جهازٍ إداري وأمني متماسكٍ، ونظام إدارة محلية يحظى بقبولٍ نسبي في مناطق شمال شرق البلاد. وبالتالي، فإن أي اندماجٍ دون تفاهمٍ سياسي واضحٍ سينتج ازدواجيًة في القرار العسكري، وربما صدامًا مؤجلًا داخل الجيش نفسه.
الأبعاد الإقليمية والدولية: لعبة التوازنات
لا يمكن قراءة هذا التقارب بمعزلٍ عن السياق الإقليمي والدولي. فتركيا، التي تراقب الملف عن كثب، ترى في أي تقاربٍ بين “قسد” ودمشق تهديدًا مباشرًا لمصالحها في الشمال السوري.
فأنقرة تراهن على استمرار العداء بين الطرفين لتبرير وجودها العسكري داخل سوريا، وأي اندماجٍ قد يعيد للنظام جزءًا من شرعيته على الحدود سيضع القوات التركية أمام مأزقٍ قانوني وسياسي جديد.
أما روسيا، فهي تدعمُ هذا المسار لأنه يعزز مشروعَها في إعادة توحيد سوريا تحت سلطةٍ مركزيةٍ مواليةٍ لها. موسكو تسعى إلى إنهاء الوجود الأمريكي من خلال “صفقةٍ داخليةٍ سورية”، تُنهي مبرر بقاء التحالف الدولي في المنطقة.
وفي المقابل، تبدو واشنطن حذرًة من أي تحول قد يضعف نفوذها، فهي تدركُ أن انفتاحَ “قسد” على دمشق يعني انزلاقها تدريجيًا نحو المحور الروسي–الإيراني. لذلك تحاول الولايات المتحدة تأجيل هذا الاندماج عبر وعودٍ بالدعم السياسي والاقتصادي، لكن هذه الوعود لم تعد تقنع القواعد الكردية ولا القيادات العسكرية التي ترى في التفاهم مع دمشق “خيارًا واقعيًا” في ظل تبدل أولويات واشنطن في الشرق الأوسط.
سيناريوهات المستقبل: من التعايش إلى الدمج
إن مستقبل العلاقة بين “قسد” والجيش السوري مرهونٌ بقدرة الطرفين على تجاوز منطق “المنتصر والمهزوم”. فـ“قسد” لن تقبل أن تعامل كميليشيا محلية، والنظام لن يمنحها اعترافًا كاملًا بكيانٍ مستقل داخل الدولة.
الاحتمال الأقرب هو تشكيل وحداتٍ محلية ضمن مناطقها، تعمل تحت راية الجيش السوري شكليًا، لكنها تبقى خاضعًة لقياداتٍ محلية في التفاصيل الميدانية. وهو نموذجٌ يشبه ما جرى في بعض مناطق التسويات جنوب البلاد، لكن مع فارقٍ أن “قسد” تمتلكُ بنية تنظيمية أقوى وتأثيرًا سياسيًا أوسع.
سياسيًا، قد يسعى النظامُ إلى استثمار هذا الاندماج لإرسال رسالةٍ إلى المجتمع الدولي بأنه “امتلك السيادة” على كامل البلاد، في محاولةٍ لكسرِ العزلة الدبلوماسية وفتح باب التطبيع مجددًا.
أما “قسد”، فستسعى إلى تكريسِ مكاسبها عبر تثبيت وجودها الإداري والسياسي ضمن أي صيغةٍ دستورية مقبلة، على أمل التحول من قوة عسكرية إلى مكون سياسي معترف به داخل النظام الجديد لسوريا المستقبل.
تساؤلات المرحلة المقبلة
إن اندماج “قسد” في الجيش السوري، إن تم، لن يكون مجرد خطوة عسكرية، بل بداية مرحلة سياسية جديدة تعيد تعريف مفهوم الدولة والوطنية والولاء داخل سوريا.
قد يحمل هذا التقارب فرصًة لإعادة بناء جيش وطني موحد يمثل جميع السوريين، وقد يكون أيضًا مقدمًة لولادة صراعٍ جديدٍ داخل المؤسسة العسكرية نفسها إذا غابت الضمانات السياسية والعدالة الانتقالية.
فهل يمكن لاتفاقٍ ولد من رحم الضرورة أن يتحول إلى شراكة حقيقية تمهد لدولة جامعة بعد سنواتٍ من الانقسام؟
مقالات قد تعجبك أيضاً






