العنف المدرسي في سوريا: من إرث البعث إلى جيلٍ خائفٍ من المدرسة*
صفا عبد التركي
في وقتٍ يُفترض أن تكون فيه المدارس حاضنات للتعلم والأمان، تتحول الصفوف في بعض المدارس السورية إلى ساحاتٍ للعقاب والإذلال. لم تكن حادثة الطفل في مدرسة “عزيز مطر السمير” بحي الجورة في دير الزور سوى واحدة من سلسلةٍ طويلة من الانتهاكات التي يعانيها الطلاب في المدارس الحكومية، حيث تتكرر مشاهد الضرب على الوجه، وحلق الشعر، والتوبيخ العلني أمام الزملاء.
الطفل تيم العبدالله، عاد حديثًا من تركيا إلى سوريا، حيث لم يعتد على العنف مطلقًا، إذ نشأ في بيئة مدرسية تحترم التلميذ وتمنع العقاب الجسدي. بعد أيام قليلة من التحاقه بالمدرسة، انهالت عليه المعلمة بالضرب مع عددٍ من زملائه في الصف، رغم أنه لم يكن من المشاغبين. ووجهه عليه آثار الضرب، ليقول لوالدته باكيًا: “ما بدي روح على المدرسة أبدًا، المعلمة ضربتنا.”
يقول والده، مؤيد العبدالله لـ منصة سورية، وهو أحد ناشطي دير الزور:
“كان ابني تيم يحب المدرسة في تركيا، أما هنا فقد بات يخاف منها. قال لي إنه لا يريد العودة إليها أبدًا. للأسف، ما زلنا نعاني من بقايا النظام البعثي في مدارسنا، فبعض المعلمات ما زلن يتعاملن مع الطلاب بعقلية القمع وكأنهن في فروع أمنية لا في صفوف تعليمية.”
ويضيف العبدالله:
“نحن كعائلة نعتمد على دروس خصوصية لأن المدرسة الحكومية لا توفر الحد الأدنى من الاستقرار. هناك غياب للمتابعة والتخصيص، فكل يوم تُبدل المعلمة، والعنف أصبح وسيلة لإدارة الصف. من الضروري أن تتحول مثل هذه القضايا إلى رأي عام يساهم في وقف العنف ضد الأطفال ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات.”
هذه العبارة تلخص ببساطة ما يراه كثير من الأهالي والناشطين اليوم: استمرار ذهنية القمع البعثية داخل النظام التعليمي، حيث يُستنسخ نموذج السلطة الأمنية في الصف الدراسي، فيتحول المعلم إلى “محقق”، والطالب إلى “مُدان”.

من دير الزور إلى داريا: سلسلة من الإهانات الممنهجة
الشارع السوري اشتعل غضبًا بعد انتشار فيديو من إحدى مدارس داريا، ظهرت فيه مديرة المدرسة وهي تقص شعر طالب وتضربه أمام زملائه. المشهد وُصف بأنه “إهانة لا تربية”، في إشارة إلى أن ما جرى لا يمت بصلة لأي سلوك تربوي.
الناشط السوري تامر تركماني علق على الحادثة قائلًا:
“لو كان ابني هو من تعرض لهذا التعنيف، لكان من واجبي المطالبة بمحاسبة كل المسؤولين عن هذا الفعل. ما حدث لا يمت للتربية بصلة، بل هو إساءة إلى الطفل وإلى معنى التعليم ذاته. يجب أن تكون هناك محاسبة علنية لكل من يبرر هذا السلوك، لأن من يقبل إهانة ابنه إنما يهين مستقبل الوطن.”
في المقابل، أعلنت مديرية تربية ريف دمشق عن إيقاف المديرة عن العمل ومنعها من دخول المدرسة، وتشكيل لجنة خاصة لمتابعة الحادثة. وجاء في البيان الرسمي:
“نؤكد رفضنا القاطع لأي نوع من العقاب الجسدي أو الإهانة بحق طلابنا، وتم اتخاذ الإجراءات الأولية بحق كل من يخالف تعليمات التربية.”
وجاءت هذه الحادثة قبل يوم من زيارة مدير تربية ريف دمشق، فادي نزهت، لمدرسة بالا المختلطة في النشابية، إثر تداول أنباء عن نقص في الأثاث والمقاعد الدراسية. الزيارة جاءت استجابة سريعة لمطالب الأهالي، حيث اطلع المدير على واقع المدرسة ووعد بتأمين المقاعد خلال الأسبوع القادم، مؤكدًا حرص المديرية على توفير بيئة تعليمية آمنة.
هذه الخطوة، رغم أهميتها، كشفت عن تفاوتٍ واضح في استجابة وزارة التربية لمشكلات المدارس: ففي حين تُعالج قضايا البنية التحتية ميدانيًا وبسرعة، تبقى قضايا العنف والانتهاك النفسي رهينة بيانات شكلية دون متابعة حقيقية.

التعميم الرسمي… والواقع المعاكس
في الخامس من تشرين الأول 2025، أصدرت مديريات التربية والتعليم السورية في بعض المحافظات تعميمًا واضحًا جاء فيه:
“يُمنع الضرب في المدارس منعًا باتًا تحت طائلة المساءلة القانونية، وعند حصول أي مخالفة من الطالب يتم إبلاغ الإدارة وأولياء الأمور حسب الأصول.”
وفي 9 تشرين الأول/أكتوبر الجاري، أصدرت وزارة التربية والتعليم في “الجمهورية العربية السورية” تعميمًا رسميًا جديدًا جاء فيه: “بهدف ترسيخ القيم التربوية، يُمنع منعًا باتًا أي شكل من أشكال الاعتداء الجسدي أو اللفظي على الطلاب تحت أي مبرر.”
لكن هذا التعميم، رغم صراحته، لم يغير واقع المدارس. فما زال التعنيف يُمارس خلف الأبواب المغلقة، وما زال كثير من الأهالي يخشون تقديم شكاوى خوفًا من الانتقام أو من تهميش أبنائهم داخل الصفوف.
أضافت الآنسة هبة وهي إحدى المدرسات بحمص والتي عملت مديرة لأحد المراكز التربوية لخمس عشرة سنة قائلة:
“الضرب لم يصنع يومًا احترامًا، بل يولد الكراهية. هناك مئة وسيلة لمعاقبة الطالب دون عنف. لكن ما نراه اليوم هو عودة العقلية الأمنية للمدارس بعد سقوط النظام البائد، حين قبلت الحكومة بتعيين الشبيحة كمدرسين.”
جذور الأزمة: المدرسة مرآة السلطة
لا يمكن فهم ظاهرة العنف المدرسي في سوريا بمعزل عن الإرث السياسي لنظام البعث، الذي زرع ثقافة الطاعة العمياء والخوف من السلطة. المدرسة في هذه المنظومة لم تكن مكانًا للتفكير، بل للتلقين والانضباط القسري، وهي اليوم تعيد إنتاج نفس القيم داخل الأجيال الجديدة.
من وجهة نظر نقدية، فإن المعلم الذي يضرب تلميذه لا يفعل ذلك فقط بدافع الغضب أو ضعف التدريب، بل لأنه تشبع –منذ عقود– بنظام تربوي يرى أن القوة هي الوسيلة الوحيدة لضبط السلوك. هذه المنظومة الاستبدادية تبدأ من “العقيدة البعثية” وتنتهي عند العصا في يد المعلم.
ويقول أحد المراقبين التربويين في دمشق:
“المدرسة السورية ما زالت تعاني من انعدام الرقابة، وغياب ثقافة المحاسبة، وضعف التدريب النفسي للمعلمين. النتيجة: بيئة تعليمية تُخرج أطفالًا خائفين، لا طلابًا أحرارًا.”
القوانين الدولية وحقوق الطفل
تتعارض ممارسات الضرب والإذلال في المدارس السورية مع اتفاقية حقوق الطفل التي صادقت عليها سوريا عام 1993.
• المادة 19 من الاتفاقية تنص على أن:
تتخذ الدول الأطراف جميع التدابير التشريعية والإدارية والاجتماعية والتعليمية لحماية الطفل من جميع أشكال العنف أو الضرر أو الإساءة البدنية أو العقلية أثناء وجوده في رعاية الوالدين أو الأوصياء أو أي شخص آخر يتعهد برعايته.”
• كما تؤكد المادة 28، الفقرة 2 على أن:
“تتخذ الدول الأطراف جميع التدابير المناسبة لضمان أن يكون انضباط الطفل في المدرسة متفقًا مع كرامة الطفل الإنسانية وبما يتماشى مع هذه الاتفاقية.”
إلى جانب ذلك، تحظر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (المادة 5) واتفاقية مناهضة التعذيب (1984) أي معاملة قاسية أو مهينة للكرامة الإنسانية. وبناءً على هذه المرجعيات، فإن ما يحدث في المدارس السورية يمكن اعتباره انتهاكًا ممنهجًا لحقوق الطفل وكرامته الإنسانية.
*إلى متى تُدار المدارس بعقلية المخابرات؟*
إن استمرار هذه الممارسات رغم التعميمات الرسمية يكشف عن فشل مؤسسي عميق داخل وزارة التربية والتعليم، التي ما زالت تتعامل مع قضايا العنف التربوي بقرارات انفعالية وبيانات شكلية.
في المقابل، يعيش المعلم نفسه في بيئة ضاغطة، بين مناهج مكثفة، وأجور زهيدة، وصفوف مكتظة، دون دعم نفسي أو تدريبي. وهكذا، يتحول الضغط إلى عنف، والعجز إلى تسلط.
لكن ما لا يمكن تبريره هو استمرار استخدام الضرب كأداة تربية. فكما قال أحد المعلّقين على وسائل التواصل:
“حين تتحول المدرسة إلى نسخة مصغرة من فرع المخابرات، لا تنتظر من التلميذ أن يحب العلم، بل أن يكره نفسه.”
تفاعل الأهالي ومبادرة إصلاحية

ساعات من تواصلنا مع مؤيد العبدالله، دعا عبر منشور شخصي إلى نبذ العنف المدرسي وتعزيز التعاون بين الأهالي والكادر التعليمي، مؤكدًا أن المدرسة قدمت اعتذارًا وتم حل المشكلة.
أوضح أن الهدف لم يكن شخصيًا، بل مواجهة ظاهرة الضرب في المدارس بشكل عام، مع الدعوة لتشكيل مجالس أولياء أمور ومحاسبة المقصرين من الطرفين.
في حين لم تلقَ باقي الحالات نفس الرد الإداري أو الاهتمام الرسمي، ما يبرز التفاوت في تعامل السلطات التربوية مع الانتهاكات
*الإصلاح التربوي يبدأ من كسر العصا*
العنف المدرسي في سوريا ليس مجرد انحراف تربوي، بل هو نتيجة مباشرة لبنية سلطوية ما زالت تهيمن على مؤسسات الدولة.
الطفل الذي يُضرب اليوم في الصف هو المواطن الخائف غدًا، والجيل الذي يُهانون فيه الطلاب هو ذاته الذي سيتربى على الخضوع، لا على الحرية أو التفكير النقدي.
إن القضاء على هذه الظاهرة يتطلب ما هو أكثر من تعميم وزاري أو فصل مؤقت لمعلمة، بل يتطلب ثورة قيمية تبدأ من إعادة تعريف معنى التربية، وتنتهي بإصلاح النظام التعليمي من جذوره.
ففي النهاية، التعليم ليس تلقينًا بالعصا، بل بناء للإنسان بالعقل والاحترام.