الذهب الأبيض يحتضر… قلة الدعم والجفاف وسياسات خاطئة تحارب مزارعي الجزيرة السورية
فريق التحرير
تشهد زراعة القطن في الجزيرة السورية تراجعًا حادًا خلال السنوات الأخيرة، بعدما كانت تُعرف بالذهب الأبيض الذي يمدّ البلاد بعائدات اقتصادية كبيرة. اليوم، يواجه المزارعون أزمات متلاحقة من الجفاف وارتفاع الأسعار إلى ضعف الدعم الحكومي والإدارة الذاتية (قسد)، مما جعل القطن في شمال شرق سوريا على حافة الانهيار.
يعتبر مزارعو “الذهب الأبيض” في الجزيرة السورية أن السعر الذي حددته “الإدارة الذاتية (قسد)” بـ600 دولار للطن “مجحف” مقارنة بالتكلفة، فيما امتنع مزارعون آخرون عن زراعة القطن هذا العام، مما يشكل تهديدًا اقتصاديًا كبيرًا بانهيار أحد أهم ثروات سوريا بعد أعوام من الجفاف.
فما القصة؟
قال أبو محمد، أحد مزارعي مدينة الحسكة، إن زراعة القطن “تراجعت” منذ سبع سنوات بشكل ملحوظ بسبب قلة المياه بالدرجة الأولى، لأن القطن يحتاج إلى الري بمعدل 11 مرة تقريبًا.
وذكر المزارع أن نقص الأسمدة لعب دورًا كبيرًا، إضافة إلى ارتفاع أسعارها، وأنها ليست “بجودة الأسمدة السورية القديمة التي كانت توزعها مؤسسة البذار”، موضحًا أنها تُستورد إما من تركيا أو العراق أو إيران.
وأضاف:
يعاني محصول القطن من الدود، والمبيدات الحشرية لم تعد بتلك الجودة المعهودة منذ سنوات. كنا سابقًا نعطي أسمدة سائلة مع المياه، لكنها لم تعد متوفرة الآن
أبو محمد أحد مزارعي الحسكة
وحول السعر الذي تشتري به “الإدارة الذاتية” المحصول، أوضح أبو محمد:
“منذ عامين طلبوا منا أن نزرع واعدين بشراء المحصول. زرعت حينها ٨٠ دونمًا، وعند القطاف أخبرونا أنهم لن يشتروا، وأن عليّ بيعه للتجار. كلفني الدونم آنذاك ٦٠٠ دولار، وبعته للتجار بـ485 دولارًا للطن”.
يصف المزارع العام الماضي بأنه “خسارة كبيرة”، مضيفًا: “لم أجرؤ على زراعته هذا العام، لأن خسارة القطن أصعب من خسارة القمح أو الشعير”.
وفي هذا العام، ذكر الرجل: “منذ تلك الخسارة، أي منذ عامين، لم أزرع، وقالوا هذا العام إنهم سيشترون الطن بـ800 دولار، لكن القرار الذي صدر لاحقًا حدده بـ600 دولار، وهكذا يتساوى المزارع بالفلاح”.
وأشار أبو محمد إلى ضعف الدعم الذي تقدمه “الإدارة”، فقبل ذلك كانت الحكومة تدعم القطاع الزراعي من خلال إعطاء الأدوية والبذار بالدين، “وكنا نسدد الدين سنويًا بالتقسيط”.
وحول الري، أوضح المزارع أنه اشترى المازوت على نفقته الخاصة، رغم أنه كان من المفترض أن يحصل على 13 ألف لتر من “هيئة الاقتصاد والزراعة” في موسم القمح، لكنهم أعطوه 2500 لتر فقط، واضطر لشراء الباقي بسعر 6 آلاف ليرة للتر، واصفًا هذه الخطوة بـ”التقطير”.
وأشار إلى أن حتى زراعة الحنطة هذا العام ستكون “بعليّة” (أي معتمدة على المطر)، فهناك من أغلق آباره ولن يزرع لأن المزارع لم يعد قادرًا على تحمّل التكاليف.

اعتماد أساسي على القطن كمورد للرزق
تعتمد منطقة الجزيرة السورية على زراعة القمح والقطن بوصفهما مصدرين رئيسيين للدخل، إذ يشكل القطن على وجه الخصوص محصولًا استراتيجيًا ذا أهمية اقتصادية كبيرة للفلاحين.
إلا أن السنوات الأخيرة شهدت تراجعًا ملحوظًا في إنتاجه نتيجة الظروف الاقتصادية الصعبة وغياب الدعم الزراعي، ما انعكس سلبًا على معيشة المزارعين واستقرارهم.
يقول محمد خير، أحد مزارعي ريف القامشلي، إنه لم يزرع القطن هذا العام لعدم توفر بئر في أرضه وارتفاع التكاليف.
وأشار إلى أن جيرانه زرعوا العام الماضي، لكنهم امتنعوا هذا العام لأنهم يشترون المازوت “حرًا”، عدا عن ارتفاع أسعار الزيت وقطع الغيار وكل شيء آخر.
يوضح خير أن جيرانه خسروا آلاف الدولارات في العام الماضي، لأن السعر المحدد بقي 600 دولار للطن، في حين يشترون برميل المازوت الحر بمليون ليرة سورية، وأحيانًا بمليون ونصف في أوقات الأزمات، وهو لا يكفي سوى ليومين.
وأشار المزارع إلى أن أحد أصدقائه زرع أربعة أكياس العام الماضي (أي نحو 40 دونمًا)، ورغم أن المشروع ملكه، فإنه خسر.
وأوضح محمد أن قسمًا من المزارعين زرعوا القطن “مكرهين” فقط ليحافظوا على تراخيصهم الزراعية، لأن من لا يزرع لا يحصل على بذار أو أي نوع من أنواع الدعم في الموسم الشتوي، “فزرعوا بضع أكياس دون النظر إلى الربح أو الخسارة”.
وأضاف أن المزارعين الذين يمتلكون ألواح طاقة شمسية يجدون الوضع أفضل نسبيًا، لكن تكلفة هذه الألواح تصل إلى 10–15 ألف دولار، “وهو رقم كبير بالنسبة لمزارعي المنطقة”.
ارتفاع التكاليف وضعف الدعم
أدت التحديات التي تواجه القطاع الزراعي إلى تراجع كبير في المساحات المزروعة بالقطن، بسبب ارتفاع تكاليف الإنتاج وضعف الدعم الحكومي، إلى جانب نقص البذور والأسمدة وارتفاع أسعار المحروقات.
ووفقًا لتقديرات ميدانية، تبلغ تكلفة زراعة دونم واحد من القطن نحو 120 دولارًا، تشمل أعمال الحراثة والبذار والأسمدة والمكافحة والمحروقات وأجور العمال والنقل والتسويق، في حين لا يتجاوز متوسط الإنتاج 200 كغ من القطن المحبوب للدونم الواحد، ما يجعل المردود المالي غير قادر على تغطية التكاليف الفعلية.
سياسات تزيد من تراجع الإنتاج
يشتكي الفلاحون من السياسات الزراعية المتبعة في مناطق سيطرة “قسد”، والتي أدت – بحسب قولهم – إلى إقصائهم عن العملية الإنتاجية واحتكار تسويق المحاصيل، مما عمّق من معاناتهم.
وقد حددت الإدارة الذاتية سعر شراء القطن بنحو 600 دولار للطن الواحد، وهو سعر يعتبره المزارعون منخفضًا مقارنة بالتكاليف المرتفعة، ما دفع عددًا منهم إلى التخلي عن الزراعة والاتجاه نحو مجالات أخرى، مثل العمل في صفوف القوى العسكرية التابعة للإدارة الذاتية، بحثًا عن مصدر دخل بديل.
تراكمات الإهمال عبر السنوات
يرى مراقبون أن أزمة القطن في الجزيرة السورية ليست وليدة اللحظة، بل نتيجة تراكمات طويلة من الإهمال والتراجع في الاهتمام بالقطاع الزراعي.
فمنذ عقود، لم يحظَ الفلاح في المنطقة بالدعم الكافي، سواء من حيث الخدمات الزراعية أو التسويق، كما ساهمت مراحل الحرب وتقلبات الأمن والاقتصاد في تفكيك البنية الزراعية وتراجع المساحات المزروعة عامًا بعد عام
الخبراء: خطة متكاملة للإنقاذ
يؤكد الخبراء الزراعيين أن إنقاذ زراعة القطن في الجزيرة السورية يحتاج إلى خطة متكاملة لإعادة النهوض بالقطاع.
ويشير هؤلاء إلى أهمية اعتماد أصناف محسّنة عالية الإنتاجية تتناسب مع طبيعة المنطقة، مع ضرورة خفض تكاليف الإنتاج من خلال دعم الأسمدة والمحروقات والآليات الزراعية. كما يدعون إلى رفع سعر شراء القطن بما يتناسب مع الأسعار العالمية، واعتماد برامج للمكافحة الحيوية لتحسين جودة المحصول والحد من استخدام المبيدات الكيميائية، بما يسهم في تعزيز قدرته التنافسية وتحقيق ربح مجزٍ للفلاح.
ويرى الخبراء أن تطبيق مثل هذه الإجراءات من شأنه أن يعيد الثقة إلى المزارع، ويضمن استمرارية هذا المحصول الحيوي في دعم الاقتصاد المحلي
“الاقتصاد الغبي”… مصادفة أم سياسة ممنهجة تطال محاصيل أخرى؟
في أكتوبر 2022، أدخلت “قسد” شحنة من بذار القمح الأمريكي المصابة بـ”النيماتودا” (الديدان الخيطية) إلى أراضي الجزيرة السورية، مما تسبب بتلف بذرة القمح السورية المعروفة بجودتها وتردي وضع الزراعة في المنطقة، وانعكس ذلك على خبز الناس.
نشرت وزارة الزراعة آنذاك تحذيرات من أن زراعة هذه البذور ستحول الأراضي الزراعية إلى غير صالحة للزراعة لعدة سنوات.
والغريب أن “قسد”، التي تفرض ضرائب مرتفعة وشروطًا قاسية على المزارعين، قبلت الهبة التي بلغت 3000 طن من البذار “عالية الجودة” بحسب الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، دون أن تخضع هذه البذور للفحص في مراكز الحجر الزراعي الرسمية.
أثبتت التجربة فشلها على أرض الواقع، فلم يكن الجفاف وحده سبب تدهور الموسم الزراعي، بل أدى هذا البذار الفاسد إلى تلف البذرة السورية الأصيلة التي تعود لآلاف السنين، مما أثر على الأراضي الزراعية واستنزف خصوبة التربة ودمر الزراعة في المنطقة.
كما عانى الناس من تردي جودة الخبز، إذ أصبح يخرج من الأفران متفحمًا أو يتفتت بسرعة.
ورغم رفض بعض المزارعين إدخال البذور إلى أراضيهم، فإن إصرار “قسد” على تجربتها دفع مزارعي الجزيرة السورية لدفع ثمن هذه الخطوة حتى اليوم، إذ إن التخلص من البذار الرديء أو التالف يحتاج إلى سنوات طويلة من العمل، دون ضمانات بعودة البذرة السورية إلى جودتها السابقة بعد اندماجها بالبذار المستورد.
وبالتالي، لم يكن الجفاف وحده سبب تدمير الاقتصاد الزراعي في سوريا، بل سياسة زراعية فاشلة حاولت “قسد” تلميعها إعلاميًا. فالبذار كان فاسدًا، وتسبب بانتشار ديدان الأرض بكثرة، مما ترك آثارًا سلبية على التربة لا تزال الجزيرة تعاني منها حتى الآن.
إن واقع زراعة القطن في الجزيرة السورية يعكس بوضوح حجم التحديات التي تواجه الفلاحين في ظل ضعف الدعم وغياب التخطيط الزراعي.
ويبقى مستقبل هذا المحصول الاستراتيجي مرهونًا بقدرة الجهات المعنية على وضع سياسات عادلة ومستدامة تعيد للقطن مكانته الطبيعية كمصدر رئيسي للدخل، وأحد أعمدة الاقتصاد الزراعي في المنطقة.