السويداء بين التخوين والانفصال: صراع على تعريف الوطنية السورية

الكاتبة : صفا عبد التركي

من ساحة الكرامة إلى اشتباكات فجر 28 أيلول: الوطنية تتحول إلى تهمة

في ساحة الكرامة وسط السويداء، عُلقت صور لأبناء من المحافظة وُصفوا بأنهم “خونة للدروز” و”عملاء للجولاني”. أبرز هؤلاء كان الباحث جمال الشوفي، المعروف بمقالاته الناقدة لدمشق ورفضه الصريح للتقسيم والتدخل الإسرائيلي. المفارقة أن الرجل، الذي لا يوفر النظام من نقده، وُسم بالخيانة لمجرد تمسكه بالوحدة الوطنية.

هذا النمط ليس جديدًا؛ فمنذ سنوات، أصبح التخوين لغة سياسية ثابتة في سوريا: في مناطق النظام، أي معارض يُتهم بالعمالة للخارج، وفي مناطق المعارضة، كل من يرفض المشاريع الخارجية يُتهم بأنه ذراع للنظام. والآن، يتكرر المشهد في السويداء، حيث أصبح “رفض الانفصال” بحد ذاته تهمة.

المشهد تصاعد أكثر فجر 28 أيلول/ سبتمبر ، حين اندلعت اشتباكات عنيفة بين حركة رجال الكرامة ومجموعة يقودها سليم حميد، على خلفية اعتقال الأخيرة عنصرًا من الحركة وتعذيبه. هذا التطور لم يكن مجرد خلاف ميداني، بل نتيجة مباشرة لتراكم مناخ التخوين والتجاذب السياسي. هكذا تحول الخلاف الفكري إلى صدام دموي داخل الجبل، ما يعكس خطورة المرحلة التي وصلت إليها المحافظة.

المعادلة السياسية: النظام والإسرائيليون والمشاريع الانفصالية على حساب هوية الجبل

لفهم ما يحدث في السويداء لا بد من وضعه في إطار المعادلة السورية الأوسع. فالحكومة تراهن على استمرار الفوضى في الجبل، لأنها تعرف أن الانقسام الداخلي سيجعلها تظهر لاحقًا بمظهر الضامن الوحيد للاستقرار. أما إسرائيل، فهي تنظر إلى تفكيك السويداء باعتباره مدخلًا لتقسيم سوريا وضمان حدودها الشمالية، وكل خطابها حول “حماية الدروز” ليس سوى ورقة ضغط تُستخدم في سياق حساباتها الإقليمية. وفي المقابل، تروج بعض المشاريع الانفصالية لفكرة “الإدارة الذاتية” أو “الخصوصية المحلية” باعتبارها الحل الواقعي الذي يصون كرامة الجبل، لكنها عمليًا تفتح الباب واسعًا أمام التدويل والتدخل الخارجي.

في هذا المشهد، تبدو السويداء وكأنها عالقة بين ثلاث قوى متناقضة، كل منها تحاول صياغة مستقبلها وفق أجندتها الخاصة: سلطة تستثمر في الفوضى، قوة إقليمية تسعى إلى تقسيم البلاد، وحركات محلية تُقدم كخلاص لكنها تحمل في جوهرها خطر تحويل المحافظة إلى كانتون معزول.

السويداء مرآة سوريا

السويداء اليوم تقف عند مفترق طرق تاريخي. بين من يرفع شعار الوحدة ويُتهم بالخيانة، ومن يطرح مشاريع الانفصال باسم الحماية والكرامة. الاشتباكات الأخيرة ليست سوى إنذار مبكر بأن الجبل قد ينزلق إلى فوضى داخلية، تُفقده دوره الوطني وتحوله إلى ورقة تفاوضية بيد النظام أو إسرائيل أو غيرهما.

قصة السويداء مرآة لسوريا كلها: وطن يُعاقَب فيه المتمسكون بالوحدة، بينما تُفتح الأبواب أمام دعاة الانقسام. والخطر الحقيقي أن يتحول التخوين إلى واقع دموي يلتهم ما تبقى من النسيج الاجتماعي السوري.

وإذا تعمقنا أكثر في المقارنة، نجد أن آلية التخوين كانت الأداة المركزية لتبرير التدخلات الخارجية. ففي إدلب سابقًا، استخدم التخوين كسلاح سياسي لإقصاء كل من رفض سلطة “هيئة تحرير الشام” أو انتقد ارتباطها بالأجندات التركية، ليُوسم فورًا بأنه عميل للنظام أو لروسيا. هذا الخطاب سهل لأنقرة تقديم نفسها كوصي على المنطقة بذريعة منع تمدد النظام وحماية المدنيين، بينما في الحقيقة تحولت إدلب إلى ساحة نفوذ تركية مغلقة.

وفي الحسكة، عاشت المجتمعات العربية والسريانية والكردية حالة مشابهة: كل اعتراض على مشروع “الإدارة الذاتية” جرى تصويره على أنه تبعية للنظام أو تقاطع مع داعش، وهو ما فتح الباب أمام واشنطن لتكريس وجودها العسكري والسياسي بوصفه ضرورة لمكافحة الإرهاب وضمان الاستقرار.

هذه الأنماط تكشف أن التخوين ليس مجرد تعبير عن الانقسام الداخلي، بل أداة وظيفية بيد القوى الإقليمية والدولية لشرعنة تدخلها وإعادة صياغة المشهد السوري بما يخدم مصالحها. وبذلك، فإن ما يجري اليوم في السويداء ليس سوى حلقة جديدة من سلسلة بدأت في إدلب والحسكة، وما لم يُكسر هذا النمط ستبقى الوطنية السورية محاصرة بين معسكرات التخوين ومشاريع التدويل.

فهل يبقى الجبل شاهدًا على إعادة إنتاج المأساة السورية، أم يتحول إلى نقطة انطلاق لخطاب وطني يرفض التخوين والانقسام معًا؟