اللشمانيا في الرقة.. أزمة صحية تتشابك مع الفوضى البيئية والإدارية

الكاتب :أحمد السخني

عاد مرض اللشمانيا ليشكّل أحد أبرز التحديات الصحيّة في شمالي محافظة الرقة، في سياق تتداخل فيه العوامل البيئية مع التعقيدات الإدارية والأمنية، ما أدّى إلى ارتفاع ملحوظ في أعداد الإصابات خلال فترة زمنية قصيرة، وطرح تساؤلات متجددة حول القدرة على احتواء المرض والحدّ من توسعه.

ولا يمكن قراءة الواقع الصحي في شمالي الرقة بمعزل عن السياق العام الذي تعيشه المنطقة، إذ ترافقت التغيرات المناخية، ولا سيما الجفاف الممتد منذ عامين، مع تراجع الخدمات الأساسية، وتضرّر البنى التحتية، وغياب منظومات الصرف الصحي في عدد كبير من القرى والبلدات، ما وفّر ظروفاً مواتية لانتشار الأمراض المنقولة بالحشرات، وفي مقدّمتها اللشمانيا.

ارتفاع الإصابات وتوسّع رقعة الانتشار

ووفق معطيات صادرة عن مديرية الصحة ومراكز مختصّة بعلاج اللشمانيا، جرى خلال أسبوع واحد فقط معاينة نحو 800 حالة إصابة وتقديم العلاج لها في مناطق شمالي الرقة، معظمها بين الأطفال، وهو رقم يعكس تسارع وتيرة الانتشار مقارنة بالفترات السابقة، ويشير إلى اتساع رقعة الإصابة جغرافياً.

انتشار واسع في القرى القريبة من نهر البليخ

قال مدير صحة الرقة، الدكتور عبد الله الحمود: إن انتشار اللشمانيا هذا العام طال مناطق متعددة في شمالي المحافظة، ولا سيما الهيشة وتل السمن وعين عيسى، وخاصة القرى القريبة من مجرى نهر البليخ، حيث تتوافر بيئة مناسبة لتكاثر ذبابة الرمل الناقلة للمرض.

وأوضح الحمود في تصريح لصحيفة “الثورة السورية”: إن مديرية الصحة أطلقت حملة علاجية ميدانية، أُرسلت خلالها فرق طبية إلى المناطق الموبوءة، وزُوّدت بأكثر من 1000 أمبولة من دواء كوكلاتيم (Glucantime)، إلا أن الكميات المتاحة نفدت خلال فترة قصيرة نتيجة الارتفاع الكبير في عدد الحالات، حيث جرى علاج أكثر من 800 حالة خلال الأسبوع الماضي.

وأضاف أن المديرية تواصلت مع وزارة الصحة، التي استجابت بتزويد المنطقة بـ 5000 أمبولة إضافية، بهدف دعم المراكز الصحية وضمان استمرار تقديم العلاج للحالات الجديدة.

نقص الأدوية والكوادر يضغط على المراكز الصحية

وأشار مدير صحة الرقة إلى أن برنامج مكافحة اللشمانيا يعمل بالتنسيق مع منظمة الصحة العالمية، التي قدّمت دعماً لوجستياً تمثّل بتزويد المديرية بسيارة مخصّصة للعلاج الميداني، ما ساهم في الوصول إلى بعض القرى البعيدة عن المراكز الصحية الثابتة.

وبحسب الحمود، فإن أكثر من 90 بالمئة من الإصابات المسجّلة هي بين الأطفال، وهو ما ينسجم مع طبيعة المرض والعوامل المرافقة له، سواء من حيث ضعف المناعة، أو طبيعة السكن واللعب في بيئات مكشوفة، أو تأخر اكتشاف الإصابة في مراحلها الأولى.

تأثر حملات المكافحة بعوامل أمنية

وعلى صعيد الوقاية، أوضح الحمود أن حملات رش ومكافحة ذبابة الرمل تُنفَّذ عادة في فصل الربيع، باعتباره مرحلة منع التفقيس، إلا أن تنفيذ هذه الحملات خلال الفترة الماضية تأثر بعوامل أمنية، ما حدّ من إمكانية تطبيق برامج وقائية واسعة النطاق.

ولفت مدير صحة الرقة إلى أن ازدياد عدد الإصابات لا يرتبط فقط بالعوامل البيئية، بل يعود أيضاً إلى صعوبات التنسيق الميداني، موضحاً أن المديرية حاولت مراراً التواصل مع “قسد” المسيطرة على مدينة الرقة وأجزاء من شمالي المحافظة دون تلقي استجابة، الأمر الذي انعكس سلباً على القدرة على التدخل السريع وأدّى إلى تضاعف أعداد الحالات.

غياب المراكز المتخصصة يزيد التعقيد

قال خضر العويد، مسؤول مركز علي باجلية الصحي شمالي الرقة: إن المركز يشهد تزايداً يومياً في عدد الحالات، موضحاً أن مركز علي باجلية استقبل 170 حالة إصابة خلال الأيام الماضية، غالبيتها بين الأطفال.

أسباب الانتشار

وعزا العويد انتشار المرض إلى مجموعة عوامل، في مقدّمتها:

  • انتشار النفايات في الأحياء السكنية

  • كثرة المستنقعات

  • الجفاف الذي شهدته المنطقة خلال العامين الماضيين

  • عدم تنفيذ حملات رش وقائية قبل تفشي المرض

  • نقص الأدوية والمستلزمات الطبية اللازمة لمكافحة الحشرة الناقلة

وأوضح أن الأطفال يشكّلون الفئة الأكثر إصابة، نتيجة ضعف المناعة مقارنة بالبالغين، إضافة إلى رقة البشرة وكثرة اللعب في أماكن غير نظيفة، ما يزيد من احتمالية انتقال العدوى.

القرى الأكثر إصابة

حدّد العويد القرى والمناطق التي سُجّلت فيها إصابات، ومنها:
الشركراك، المارودة، المكسور، المطرد، العماير، الشريعة، الهشلوم، الحبيب الأحمد، العويد الحسين، قرى صكيرو، العلكان، أم حرملة، والعبد الشيخ.

تزايد الحالات في تل أبيض

في تل أبيض، قال رعد ناوي البطحاوي، المسؤول الإداري في مركز تل أبيض الصحي الأول: إن حالات الإصابة باللشمانيا تشهد تزايداً مستمراً، مشيراً إلى أن المركز استقبل 42 حالة إصابة خلال أسبوع واحد، وجميعها بين الأطفال.

وأشار إلى أن تأخر مراجعة المراكز الصحية، إضافة إلى عدم التزام بعض الأهالي باستكمال العلاج الدوائي الموصوف، يسهمان في تفاقم الحالات وإطالة فترة العلاج.

تحديات طبية ولوجستية

وبحسب البطحاوي، فإن علاج اللشمانيا متوفر حالياً في المراكز الصحية بدعم من الحكومة السورية، إلا أن الكميات المتاحة غير كافية، مع وجود نقص في أطباء الجلدية، إذ يتوافر طبيب مختص يومين فقط أسبوعياً في مشفى تل أبيض، إضافة إلى غياب حملات توعية صحية خارج المراكز، وتوقف الدعم عن المركز منذ نهاية آذار 2025.

أزمة صحية متشابكة

وفي ضوء هذه المعطيات، يتضح أن ملف اللشمانيا في شمالي الرقة لا يقتصر على كونه تحدياً صحياً بحتاً، بل يعكس تشابكاً بين البيئة والخدمات والبنية التحتية والتنسيق الإداري والظروف الأمنية، ما يجعل التعامل معه مرتبطاً بقدرة الجهات المعنية على توفير تدخل متكامل يجمع بين العلاج والوقاية وتحسين شروط البيئة العامة.