صور الشهداء المؤجلة: قراءة في مأزق المجتمع المدني وحقوق الأهالي
فريق التحرير
لم تكن واقعة احتفاظ عدد من منظمات المجتمع المدني السورية بآلاف صور الشهداء طوال ستة أشهر من دون إعلان أو توضيح مجرد حادثة عابرة يمكن تجاوزها ببيان مقتضب أو اعتذار سريع. لقد كشفت هذه الحادثة عن هشاشة بنيوية أعمق، تتجاوز مؤسسة بعينها لتطال منظومة العمل المدني برمتها، وعلاقة هذا القطاع الحساسة مع الأهالي، ومع الجهات المانحة الأوروبية، ومع المجال العام السوري الذي ما زالت جراحه مفتوحة.
فالصور التي خرجت إلى العلن بعد كشف صحفي، لا بعد مبادرة من الجهة الحائزة لها، لم تكن مجرد وثائق عابرة، بل دلائل على مصائر آلاف المفقودين، ورموز لمعاناة عائلات معلقة بين الأمل والحداد. وحين تُحجب هذه المواد طوال تلك المدة، ثم تُمنح للعلن بعد ضغط إعلامي، يصبح السؤال ليس حول التوقيت فحسب، بل حول روح العمل المدني ومبرر وجوده.
أولًا: معنى أن تُخفى المعلومات في بلد يتنفس عبر الحقيقة
منذ اللحظة الأولى أخذت القضية طابعًا يتجاوز التفاصيل الإدارية. فالمنظمات التي حصلت على الصور لم تُعلن عنها، ولم تشرح ظروف وصولها إليها، ولم تعقد مؤتمرًا يوضح سلسلة الحيازة كما تقتضي أبسط قواعد الشفافية. وحتى اللحظة ليس واضحًا إن كان التأخير ناجمًا عن سوء تقدير مهني، أو خلاف داخلي، أو حسابات تتعلق بالجهات المانحة، أو رغبة بضبط التوقيت السياسي لعملية النشر.
لكن المؤكد أن هذا التأخير لم يمر بلا أثر. فقد سمح بانتشار سماسرة الوثائق، وأتاح المجال لمروجي الإشاعات كي يقولوا لأهالٍ محطمين إن أبناءهم ما زالوا أحياء. ستة أشهر كانت كافية لتتوسع السوق السوداء، ولتترسخ قناعة لدى كثيرين بأن المنظمات العاملة في هذا القطاع ليست حارسًا أمينًا لمعلومات بهذا القدر من الحساسية.
ثانيًا: أزمة ثقة لا تُبنى بيانات التبرير على ترميمها
الثقة بين الأهالي والمنظمات ليست تفصيلًا ثانويًا، بل هي الشرط الأول لعمل حقوقي محترم. وحين يسأل الناس:
كيف نشارككم معلوماتنا في المستقبل؟
كيف نحضر ورشاتكم وأنتم لم تطلعونا على صور أبنائنا ستة أشهر كاملة؟
فهذه الأسئلة لا تحتاج لتفسير طويل، بل تحتاج لاعتراف واضح بأن هناك خللًا كبيرًا لا يمكن تجاوزه بمعالجات شكلية.
إن الأهالي لم يحملوا المنظمات أكثر مما تحتمل، بل وضعوا أصابعهم على مأزق عميق: كيف يمكن لمنظمة تدير ملفات تعذيب وقتل وإخفاء قسري أن تُخفي هي نفسها معلومات عن الضحايا؟ وكيف يمكن للممول الأوروبي، الذي يرفع شعار الشفافية، أن يمول عملًا كهذا دون أن يطرح الأسئلة الضرورية؟
ثالثًا: ازدواجية المواقف وتبدل المعايير
في ملفات أخرى، لم تتردد منظمات مدنية في إصدار بيانات إدانة شديدة اللهجة بحق الحكومة السورية، كما حدث في ملف السويداء. لكن حين تعلق الأمر بصور ضحايا قضوا في المعتقلات، تغيّر الخطاب فجأة، وأصبح الحديث يدور حول ضرورة التنسيق والجهات المختصة.
مثل هذا التبدل لا يمكن وصفه بالخطأ المهني، بل هو تذبذب ينسف أي منطق ثابت في اتخاذ المواقف.
المفارقة هنا ليست سياسية فقط، بل أخلاقية أيضًا. وإذا لم تستطع المنظمات أن تفسر سبب اتباع معيار في ملف، ومعيار آخر في ملف مشابه، فسيبدو الأمر وكأنه خاضع لحسابات غير معلنة، لا لمبادئ ثابتة.
رابعًا: مسؤولية الجهات المانحة التي لا يمكن تجاهلها
كل تمويل دولي لعمل حقوقي يحمل ضمنيًا مبدأ المساءلة. والجهات المانحة الأوروبية ليست مجرد ممول مالي، بل هي طرف يضع شروطًا واضحة تتعلق بالشفافية والحكامة والرسائل العامة للمشاريع التي يدعمها.
ولهذا يصبح السؤال مشروعًا:
هل كانت الجهات المانحة على علم بأن المنظمات تحتفظ بهذه الصور دون إعلان؟
وإن لم تكن تعلم، فأين سقطت الرقابة؟
وإن كانت تعلم، فكيف بررت هذا المسار الذي يشبه في حده الأدنى شكلًا من أشكال حجب المعلومات عن أصحابها الشرعيين؟
خامسًا: الإعلام كجهة كاشفة لا كخصم
في اللحظة التي حملت فيها المنظمات بعض وسائل الإعلام مسؤولية ما جرى، كانت تعيد إنتاج المنطق ذاته الذي تنتقده لدى السلطات: لوم من يكشف الخلل لا من أنتج الخلل.
والحال أن الصحافة، لا البيانات المتأخرة، هي التي دفعت القضية إلى الضوء وأعادت حقًا أساسيًا للأهالي: حق المعرفة.
سادسًا: الصور ملكية عامة لا تُحتكر
ليست الصور ملكًا لجهة بعينها، ولا هي مادة للاستثمار المؤسسي أو السياسي. هي ملك السوريين أولًا، وملك أهالي الضحايا تحديدًا. وأي محاولة لاحتكارها أو إدارتها خارج إطار تشاركي واضح تمثل انحرافًا خطيرًا عن المبادئ التي تُبنى عليها العدالة الانتقالية.
ما بعد الفضيحة هو اختبار حقيقي لطبيعة العمل المدني
القضية ليست حدثًا عابرًا، بل لحظة اختبار حقيقية. فإذا اكتفت المنظمات ببيانات تبرير شكلية، فإن الضرر سيتحول إلى شرخ دائم لا يمكن رأبه.
أما إذا واجهت الخطأ بشجاعة، وقدمت تفسيرًا كاملًا، وفتحت مراجعة داخلية حقيقية، وأعادت تعريف علاقتها بالأهالي وبالممولين، فقد تتحول هذه الأزمة إلى خطوة تصحيحية تُعاد فيها الثقة إلى مكانها.
إن السوريين الذين انتزعوا الحقيقة عبر آلاف القصص والشهادات والمجازر لا ينتظرون منظمات قوية، بل مؤسسات صادقة. وفي بلد ينهض بصعوبة من تحت ركام ذاكرته، تصبح الحقيقة آخر ما يجب التلاعب فيه، وأول ما يجب أن يُرد إلى أصحابه.






