الإسلام السياسي في الحالة السورية
بين اتهامات التوظيف السياسي ودبلوماسية المرحلة
الكاتبة :رؤى الجاسم
في الأشهر الأخيرة أُعيد طرح مصطلح “الإسلام السياسي” بشكل لافت في النقاش العام السوري. ظهر المصطلح تقريباً كسلاح لفظي جاهز، يُستخدم بوصفه تهمة تُلصق بتوجهات السلطة الجديدة. بعض الفاعلين يحاولون تقديم فكرة أن الدولة تتجه نحو مشروع إسلامي منظم، بينما يرى آخرون أن هذا الخطاب لا يتجاوز كونه محاولة لتهيئة الرأي العام في مرحلة انتقالية شديدة التعقيد.
وهنا يبرز السؤال الأساسي:
هل تشهد سوريا فعلاً صعوداً لنسخة من الإسلام السياسي؟ أم أننا أمام سردية مصنوعة تُستخدم لتفسير مشاهد سياسية أكثر تعقيداً مما يبدو على السطح؟
للإجابة، لا بد من تفكيك المصطلح نفسه، ومراجعة السياق السوري، والعودة قليلاً إلى تاريخ توظيف الإسلام السياسي في الإقليم.
أولاً: هل يوجد إسلام سياسي في السلطة السورية الجديدة؟
بعض المحللين يفترضون أن المقاربة الحالية للسلطة أقرب بشكل ما إلى الإسلام السياسي
انطلاقاً من عدة ملاحظات:
نبرة الخطاب أصبحت أقرب إلى المزاج المحافظ للمجتمع السوري المعروف بـ”الإسلام الوسطي أو الشامي”
ازدياد ظهور شخصيات ومؤسسات دينية في المشهد، رغم اختلاف توجهاتها
محاولة خلق علاقة أكثر إيجابية مع الجمهور المتدين الذي يشكل شريحة واسعة من المجتمع
لكن هذه المؤشرات وحدها لا تكفي للإشارة إلى وجود مشروع أيديولوجي ديني متكامل
فالحكومات السورية المتعاقبة لم تكن علمانية كاملة ولا دينية كاملة كانت تتعامل ببراغماتية واضحة، وتستخدم الخطاب الديني حين يخدم مصالحها الأمنية والاجتماعية. هذا ما فعله الأسد الأب مثلاً عندما تبنى خطاب “الإسلام الوطني” في الثمانينات والتسعينات، رغم أنه كان يقمع أي تنظيم إسلامي سياسي.
لذلك ما نشهده اليوم يبدو أقرب إلى لغة سياسية جديدة تسعى لخلق جمهور متقبل وتهدئة داخلية، وموازنة المشهد الديموغرافي المحافظ أكثر من كونه مشروع “إسلام سياسي” فعلي.
ثانياً: كيف يستخدم المصطلح اليوم كسلاح سياسي؟
المصطلح المتداول حالياً يستخدم غالباً بطريقة اتهامية لا بطريقة تحليلية
فنلاحظ أن:
بعض الأطراف تستعمله لضرب شرعية السلطة الجديدة
آخرون يوظفونه لإثارة المخاوف من “تحول ديني”
وهناك إعلام إقليمي يعيد تدويره ضمن صراع السرديات
بشكل مختصر:
المصطلح أصبح أداة سياسية، أكثر منه توصيفاً فكرياً دقيقاً.
ثالثاً: السعودية… بين تاريخ “رعاية الإسلام السياسي” وحاضر الدبلوماسية
أ . السعودية كعراب تاريخي للإسلام السياسي السني
من السبعينات حتى نهاية الألفية، لعبت السعودية دوراً محورياً في رعاية التيارات السنية المحافظة، ودعمت الحركات الدعوية، وكان لها تأثير اجتماعي واسع. وفي الثمانينات، دعمت واشنطن والرياض “المجاهدين” في أفغانستان ضد السوفييت، وهو ما فتح الباب لانتشار التيارات الإسلامية حول العالم.
2. هل السلطة السورية اليوم ضمن هذا السياق؟
هناك من يربط الخطاب الديني الذي يظهر أحياناً في سوريا بعلاقة جديدة مع السعودية، معتبرين أن الرياض تحاول التأثير من خلال “تليين” خطاب السلطة.
لكن هذا التفسير يغفل نقطة أساسية:
السعودية نفسها تغيّرت، ولم تعد تعتمد الإسلام السياسي كأداة سياسية خارجية.
فالإصلاحات الداخلية قلّصت دور المؤسسات الدينية، وأعادت صياغة الدين كبعد ثقافي و هو جزء من الهوية، لا كأداة نفوذ سياسي.
لهذا، من غير المنطقي تفسير التحوّلات السورية على أنها تبعية دينية للسعودية. الأقرب أنها جزء من تحديث سياسي ضمن سياق إعادة الانفتاح الإقليمي.
رابعاً: واشنطن… الاستخدام التاريخي للإسلام السياسي
تاريخياً، استخدمت الولايات المتحدة الإسلام السياسي في محطات معيّنة لخلق توازنات:
• دعم المجاهدين ضد الاتحاد السوفييتي
• استخدام الإسلام السني ضد إيران الشيعية
• الاعتماد على الإسلام السياسي “المعتدل” كبديل سياسي أثناء الربيع العربي
هذا الإرث يجعل أي تغير في الخطاب السوري قابلاً للتفسير لدى البعض على أنه “صنع أميركي”.
لكن الحقيقة أن واشنطن اليوم تبتعد بشكل كبير عن أي مشروع ديني في المنطقة، وتفضل التعامل مع دول مستقرة لا تحمل مشاريع أيديولوجية.
لذلك من المبكر جداً القول إن التحولات السورية الحالية نتيجة “هندسة أميركية”.
خامساً: لماذا يعاد الآن طرح مصطلح الإسلام السياسي في سوريا؟
بناءً على المستجدات الأخيرة، يمكن تحديد عدة أسباب:
مرحلة إعادة التموضع الإقليمي
• تقارب سوري–سعودي
• حوارات سورية–أميركية
ما يفسره البعض كـ“أسلمة سياسية”.حاجة المجتمع لخطاب أخلاقي بعد الدمار
كل خطاب يحمل مفردات دينية يظهر كأنه “إسلام سياسي”.صراع السرديات بين القوى السورية
كل طرف يقرأ الخطوات من خلال أجندته.تمهيد الرأي العام
البعض يريد خلق تصور مسبق لأي تغيير سياسي قادم.
سادساً: هل قدم النظام السوري فعلاً نفسه كإسلام سياسي؟
الإجابة المباشرة: لا.
لا في زمن الأسد الأب، ولا في عهد بشار، ولا في المرحلة الانتقالية التي أعقبت سقوط النظام، ولا حتى مع الحكومة الحالية بقيادة الرئيس أحمد الشرع.
فالسلطات السورية المتعاقبة لم تتبنَّ يوماً مشروعاً أيديولوجياً دينياً، بل تعاملت مع الدين بصفته أداة سياسية مرنة تخدم متطلبات كل مرحلة.
1. من عهد حافظ الأسد: “الإسلام الوطني” كأداة لا كأيديولوجيا
في السبعينات والثمانينات، كان النظام يواجه تحديات داخلية كبرى، من انتشار التيارات الإسلامية السياسية وصولاً إلى الصدام المسلح مع الإخوان المسلمين. وفي تلك المرحلة، اعتمد الأسد الأب مقاربة براغماتية واضحة:
سمح بهامش ديني اجتماعي تحت مسمى “الإسلام الوطني” ليكون بديلاً عن التنظيمات السياسية.
قدّم نفسه كحامي الدين التقليدي والمجتمع المحافظ.
وفي الوقت نفسه، قمع أي تنظيم إسلامي يحمل مشروعاً سياسياً.
كانت الرسالة واضحة:
الدين مقبول كموروث اجتماعي، لكنه ممنوع كمشروع سياسي منافس.
وهذه الصيغة سمحت للنظام بإظهار نفسه كحامٍ للاستقرار الديني، دون أن يتورّط في أي صياغة دينية للحكم أو التشريع.
2. عهد بشار الأسد: تحديث شكلي… وبراغماتية أعمق
مع وصول بشار الأسد، تغيّرت لغة الخطاب، لكن جوهر المقاربة لم يتغير:
تم تعزيز دور المؤسسات الدينية الرسمية مثل وزارة الأوقاف.
تم الترويج لخطاب “التجديد الديني” و“الاعتدال”.
سُمِح بانتشار بعض الفعاليات الدعوية والاجتماعية لتخفيف الاحتقان.
لكن في العمق، بقي التعامل مع الدين أمنياً وسياسياً وليس عقائدياً.
بمعنى آخر:
الدين كان يُستخدم لضبط المجتمع لا لقيادته.
وفي نفس الوقت كانت الدولة تحارب بشدة أي تنظيم يسعى لتسييس الإسلام، من التيارات السلفية إلى الحركات المعارضة.
3. سقوط النظام: مرحلة فراغ ديني – سياسي
مع انهيار النظام ودخول البلاد في مرحلة انتقالية، ظهر فراغ كبير في الخطاب الرسمي.
لكن المفارقة أن المرحلة لم تشهد صعود “إسلام سياسي رسمي”، بل على العكس:
اختفت المرجعية الدينية التي كانت الدولة تستعملها سابقاً.
وتعثّرت القوى الدينية السياسية في تقديم نموذج قابل للاستمرار.
وبرزت ضرورة إيجاد خطاب جامع لا يهدد التوازنات المجتمعية.
هذا الفراغ ساهم لاحقاً في إعادة تشكيل خطاب الدولة الجديدة بطريقة مختلفة تماماً.
4. الحكومة الحالية بقيادة أحمد الشرع: الدين كهوية ثقافية… لا كأداة صراع
مع وصول الرئيس أحمد الشرع، ظهرت لغة سياسية أكثر مرونة مع المجتمع المحافظ، لكنها بقيت ضمن نفس الإطار السوري التقليدي:
احترام البنية الديموغرافية المحافظة
استحضار الدين كجزء من الهوية السورية
عدم تحويل الدين إلى برنامج سياسي
الحفاظ على صورة دولة مدنية بهوية ثقافية واضحة
الحكومة الحالية تستخدم الدين كمكوّن اجتماعي، وليس كأساس في بنية الحكم.
هي أقرب إلى صيغة جديدة من “الإسلام الاجتماعي” الذي يطمئن الداخل، ويُظهر انفتاحاً إقليمياً، دون اقتراب من أي مشروع إسلام سياسي.
عبر أربعة عقود، مروراً بثلاث سلطات مختلفة:
الأسد الأب وظّف الدين لتحييد الخصوم وصناعة هوية وطنية محافظة.
الأسد الابن استخدمه كأداة استقرار واحتواء اجتماعي.
مرحلة السقوط لم تنتج أي مشروع ديني رسمي.
الحكومة الحالية بقيادة الشرع تتعامل مع الدين كجزء من الثقافة العامة، لا كمصدر للشرعية السياسية.
لذلك يبقى الوصف الأدق:
النظام السوري — بكل مراحله — لم يقدم نفسه يوماً كإسلام سياسي، بل اعتمد براغماتية عقائدية تجعل الدين وسيلة:
لترميم الشرعية،
واحتواء المجتمع،
وإيجاد توازن مع القوى السنية الإقليمية،
وتقديم صورة مطمئنة محلياً وعربياً.
لكن دون بناء أي نظام قائم على الشريعة أو سلطة دينية.
ما وُجد دائماً هو مرونة سياسية تستفيد من الخطاب الديني، دون أن تتحول إليه.
وفي نهاية المقال
إنّ الحديث عن “الإسلام السياسي في السلطة السورية” هو أقرب إلى سردية تُستخدم سياسياً من كونه واقعاً أيديولوجياً.
السعودية لم تعد تنتج أو تدعم الإسلام السياسي كما في الماضي، وواشنطن تراجعت تماماً عن الاستثمار في أي مشروع ديني.
أما التحولات السورية الحالية فهي:
• إعادة تموضع إقليمي
• تبريد للعلاقات
• محاولة لكسب الداخل المحافظ
• صناعة لغة سياسية جديدة
وليست مشروعاً دينياً منظماً.
بالتالي، توصيف السلطة السورية بالإسلام السياسي هو تأويل سياسي لا يعكس حقيقة الوضع، بل يعكس حاجة الأطراف المتصارعة لإيجاد تفسير مبسّط لمشهد معقّد يعاد تشكيله.






