إعمار الإنسان أولاً… أبناء الثورة بين أنقاض الذاكرة وبذور المستقبل
الكاتبة : الاء قاسم المحمد
بينما تتسابق الشركات والمستثمرون لإعادة بناء المدن المهدمة في سوريا، يبقى الركام الحقيقي في داخل الإنسان السوري نفسه. فالحرب لم تدمر البنية التحتية فحسب، بل ضربت جذور الوعي والكرامة والانتماء، وتركت خلفها أجيالاً مهددة بالضياع النفسي والفكري.
الإعمار الذي يبدأ من الحجر محكوم عليه بالسقوط مجدداً، أما الإعمار الذي يبدأ من الإنسان فهو وحده القادر على إعادة بناء وطنٍ قابلٍ للحياة.
الإنسان أولاً: الإعمار كقضية سياسية واستراتيجية
إعادة بناء البشر ليست رفاهية ثقافية، بل شرط لقيام الدولة واستمرار المجتمع. فالمجتمع الذي يعيد إنتاج الخوف، لن يبني مؤسسات ديمقراطية، ولن يحمي وطناً.
الإنسان السوري يحتاج اليوم إلى:
تعليم حر يعيد تشكيل وعي الأجيال بعد عقود من القمع.
ثقافة وفنون تُعيد للناس قدرتهم على التعبير والتعافي النفسي والاجتماعي.
عدالة ومحاسبة تعيد الكرامة المهدورة وتكسر حلقة الانتقام والعنف.
إن الإعمار الحقيقي يبدأ من بناء الإنسان، لا من تلميع الواجهات الخرسانية. ومن دون تعليم حر ومناخ ثقافي يعيد الثقة بالذات والمجتمع، سيبقى أي مشروع إعمار هشاً، ينتظر الانهيار عند أول أزمة.
الطفل السوري: جيل بلا أفق
أطفال المخيمات اليوم هم الجيل الذي يُفترض أن يبني المستقبل، لكنهم يعيشون في عزلة وخوف وفقر.
لا مدارس آمنة، لا برامج دعم نفسي، ولا أفق تعليمي واضح.
تشير التقارير إلى أن 6.5 ملايين طفل سوري بحاجة إلى دعم نفسي واجتماعي عاجل، وهو رقم كفيل بدقّ ناقوس الخطر حول مستقبل وطنٍ بأكمله.
فمن دون رعاية تربوية ونفسية عاجلة، يتحول هؤلاء الأطفال إلى جيل تائه، فاقد للثقة والانتماء، وهو ما يجعل أي عملية إعمار مادي بلا معنى.
اليابان بعد الحرب: حين انتصر الإنسان على الركام
بعد الحرب العالمية الثانية، لم تبدأ اليابان نهضتها من إعادة بناء المدن، بل من إعادة بناء الإنسان.
عام 1947 أقرت القانون الأساسي للتعليم، الذي جعل التعليم حقاً للجميع ومجانياً وإلزامياً، وألغت السيطرة المركزية المطلقة على المناهج.
تحول التعليم من أداة تعبئة قومية إلى فضاء للحرية والمواطنة والتفكير النقدي، بينما أدخلت المدارس برامج للصحة النفسية والجسدية، والفنون، والتنشئة الاجتماعية المتوازنة.
بهذا النهج، بنت اليابان مجتمعاً أقوى قبل أن تبني مباني أقوى، وجعلت الإنسان هو البنية التحتية الحقيقية للنهضة.
دروس لسوريا: التعليم كمنارة للمستقبل
انطلاقاً من التجربة اليابانية، يمكن لسوريا أن تضع رؤية جديدة للإعمار، قوامها التعليم والتأهيل الإنساني.
محاور هذه الرؤية:
برامج تأهيل لأطفال الشوارع والمخيمات لتضميد الجراح النفسية والاجتماعية.
محو أمية للمنقطعين عن الدراسة ليعودوا إلى دورة الإنتاج والمعرفة.
غرس قيم المواطنة والحوار والعدالة بدل ثقافة الخوف والتبعية.
شراكة بين الدولة والمجتمع المدني والمجتمع الدولي لضمان استدامة الإعمار الإنساني.
فمن دون خطة وطنية شاملة لإعمار الإنسان، تبقى الأبنية الجميلة مجرد واجهات خاوية تخفي هشاشة الداخل.
النهضة من الداخل
حين يُعاد بناء الإنسان قبل الحجر، تُبنى دولة أكثر صلابة وإنسانية.
الإعمار الحقيقي ليس هندسة فيزيائية، بل هندسة للوعي، تُعيد للسوري ثقته بنفسه وبوطنه.
ذلك هو الطريق الوحيد لتجاوز الخراب الطويل، وبناء سوريا جديدة تقوم على العدالة، والكرامة، والمواطنة، حيث يصبح الإنسان هو مشروع الإعمار الأول والأبقى.






