الفكر الداعشي في السويداء
منذ بداية الثورة السورية شهدنا الكثير من الأحداث المأساوية التي تركت جروحًا عميقة في داخل السوريين، على اختلاف أفكارهم وآرائهم وحتى طوائفهم. فإذا تعمقنا في السيرة الذاتية للشأن السوري نرى أن أول أشكال التطرف كانت ردًّا على تسلّط نظام الأسد المجرم. لكن يبقى السؤال: هل هذه الأشكال من التطرف مبرّرة فعلاً؟
أولاً: من تطرف الثورة إلى تطرف “الدولة”
لنقيس على هذا الأمر بشكلٍ عقلاني ومتجرّد من العاطفة، سنأخذ مدينة الرقة مثالًا حيًا.
في الربع الأول من عام 2013 تم إعلان تحرير الرقة من النظام السوري المجرم، وبدأت قوات المعارضة المتعاقبة بإدارة المدينة بشكلٍ بديل للحكم، وبنجاحٍ نسبيٍّ حتى بداية شهر آب من العام نفسه، حين تم الإعلان عن تشكيل ما يُسمّى بـ “الدولة الإسلامية في العراق والشام” — أو “داعش” كما أطلق عليها محليًا وعالميًا. (علمًا أن أول من أطلق عليها هذا الاسم كان الناشط السياسي خالد الحاج صالح، ابن مدينة الرقة).
من هنا بدأنا نرى أقصى حالات “التطرف السني”، ممثلةً بداعش، تحت حججٍ واهية لا يمكن تطبيقها لا داخليًا ولا خارجيًا.
الرقة لم تكن جنة الله على الأرض كما حاول أن يصورها أنصار ذلك المشروع، بل كانت نموذجًا لتشويه فكرة الثورة وتحويلها إلى كارثة.
ومع دخول داعش، بدأت الأمور تسير نحو الخراب بتدرّجٍ متسارع حتى انتهى المشهد في مطلع عام 2014 بالسيطرة الكاملة على المحافظة وإعلان “دولة الخلافة”.
ثانيًا: تطرف من نوع آخر — "جبل الباشان" نموذجًا
وعلى المقلب الآخر، في الحاضر الذي نعيشه اليوم، نرى مشهدًا مشابهًا في السويداء.
نرى حكمت الهجري ممثلًا رسميًا للتطرف “الدرزي”، هو ومجموعته استطاعوا السيطرة على المدينة بشكل شبه كامل، وأعلنوا ما يسمى “جبل الباشان”، تحت ذريعة أن الحكومة السورية الجديدة “داعشية”، وأن كل من يناصرها داعشي مع سبق الإصرار.
اللعب على وتر الأقليات أصبح أداة سياسية يُستخدم فيها الخوف كوسيلة للابتزاز.
الهجري وأتباعه، من تجار المخدرات وعناصر “الحرس الوطني”، هم أنفسهم الذين كانوا يعملون في جيش النظام البائد، وارتكبوا انتهاكات بحق الشعب السوري، واليوم يحاولون الظهور كضحايا.
نسمع حديثهم الدائم عن “المظلومية الدرزية”، وعن آلاف القتلى الذين سقطوا على أيدي “البدو”، لكن في المقابل لم نسمع يومًا اعترافًا واحدًا منهم بعمليات القتل والخطف والتنكيل التي مارسها عناصرهم ضد السكان البدو، ولا بالمقابر الجماعية التي أُخفي فيها الضحايا.
ثالثًا: حين يعيد التاريخ نفسه
منذ أيام قليلة، ظهر مقطع فيديو للهجري وعددٍ ممن يُسمَّون “شيوخ عقل”، وهم يقومون بمبايعته ومعلنون تأييدهم المطلق له، في مشهدٍ يُذكّر السوريين بلحظة صعود البغدادي على منبر مسجد الموصل حين طلب من الناس المبايعة على السمع والطاعة.
وكأنّ التاريخ يعيد نفسه، لكن هذه المرة بلباسٍ مختلف وتبريرٍ “مقدس” جديد، يُسمى “حماية الجبل” أو “الدفاع عن الهوية”، بينما هو في الحقيقة الوجه ذاته للتطرّف الذي دمّر الرقة وأحرق الموصل.
رابعًا: المظلومية الانتقائية
فهنا تظهر المظلومية الانتقائية — تلك التي تمنح الأقليات حق الغضب، وتحرم الأكثرية من حتى حق الدفاع عن نفسها.
من هنا نفهم مفهوم المظلومية الحقيقي:
هل يحق للأقليات ما لا يحق للأكثرية؟
وهل التطرّق لباقي مكونات الشعب السوري مبرر فقط لأن الطرف الآخر أقلوي؟
بينما أي تعبير سني عن الغضب أو الهوية يُصنّف فوراً كإرهاب؟
خامسًا: مشاريع الانفصال وتفتيت الهوية
في المقابل، نرى من يطالب بدول وأقاليم غير موجودة أصلًا في التاريخ، مثل:
“كردستان سوريا” “روج آفا” “جبل الباشان”
وكلها مشاريع انفصالية لها قنوات تواصل مباشرة مع إسرائيل، كما لو أن الرعاة الحقيقيين لتفتيت سوريا هم من يوزّعون صكوك الغفران على الأقليات.
سادسًا: ازدواجية المعايير الدولية
يبدو أن الراعي الرسمي لهذه الحركات هو نفسه من رسم مشهد الفوضى منذ البداية، وحدّد مسبقًا من يحق له الغضب، ومن يُمنع عليه حتى رفع صوته.
الإعلام الغربي ومعه بعض النخب العربية قدّم خطابًا ناعمًا لتبرير تطرف الأقليات بحجة “الخوف الوجودي”، بينما جعل أي محاولة من الأغلبية لرفض الظلم مرادفةً للتطرف والإرهاب.
سابعًا: نحو وعي سوري جديد
وهكذا صار مشهد “التطرف المسموح” و“التطرف المحرّم” هو السردية الأخطر في الوعي السوري المعاصر.
سُمح بالميليشيات الطائفية، وبالأعلام الغريبة، وبالتحالفات مع الخارج، لكن لم يُسمح أن تقول ببساطة:
“أريد وطناً عادلاً، لا طائفة تحكمه.”
في الختام
ربما آن الأوان أن نسأل أنفسنا:
هل نريد حقًا سوريا جديدة يتساوى فيها الجميع أمام القانون؟
أم نريد فقط تبادل الأدوار، ليصبح جلاد الأمس ضحية اليوم، وضحية الأمس جلاد الغد؟









