دمشق وموسكو: ثمانون عاماً من البقاء والبراغماتية في قلب العواصف
الكاتب : محمد الحمود البلبيبل
لم تكن العلاقة بين موسكو ودمشق مجرد صفحة من صفحات الحرب السورية الحديثة، بل هي سردية ممتدة منذ أربعينيات القرن الماضي، حين كانت سوريا الخارجة من الانتداب الفرنسي تبحث عن موقعها بين القوى الكبرى. عبر أكثر من ثمانين عاما، تباينت طبيعة التحالف بين البلدين بين الشغف الأيديولوجي، والبراغماتية السياسية، ثم التفاهم الواقعي في عهد أحمد الشرع. ومع تغير الزمن، بقيت الحقيقة الثابتة أن روسيا كانت الحليف الذي لم يتبدل مهما تبدلت العصور.
البدايات ما قبل الأسدين: الطريق إلى الشرق
في أعقاب الحرب العالمية الثانية، بدأ الاتحاد السوفيتي ينظر إلى الشرق الأوسط باعتباره ساحة لا بد من كسر احتكار الغرب لها. وسوريا، بموقعها الجغرافي الفاصل بين تركيا والعراق وفلسطين، بدت نقطة ارتكاز مثالية لمد النفوذ السوفيتي نحو المتوسط. في المقابل، كانت دمشق تتلمس طريقها بعد الاستقلال، تعيش دوامة الانقلابات العسكرية والتجاذبات الإقليمية. في تلك الفوضى، وجدت النخب القومية واليسارية في موسكو حليفا طبيعيا ضد الهيمنة الغربية. أقامت سوريا علاقات دبلوماسية مبكرة مع الاتحاد السوفيتي، وتبادلت معه البعثات العسكرية والتعليمية، وبدأت صفقات التسليح تظهر في منتصف الخمسينيات. عندما رفضت سوريا الانضمام إلى حلف بغداد عام 1955، أصبحت فعليا ضمن الدائرة السوفيتية، رغم أنها لم تدخل في تحالف رسمي. كان السوفييت يدركون أن دمشق تمثل بوابة إلى المشرق، بينما كانت القيادة السورية تدرك أن موسكو قادرة على كبح ضغوط الغرب وإسرائيل في آن واحد. هكذا تشكلت البذرة الأولى لعلاقة طويلة الأمد قوامها الحذر والضرورة.

مرحلة الأسد الأب: التحالف الراسخ والاعتماد الاستراتيجي
مع تولي حافظ الأسد الحكم عام 1970، دخلت العلاقة بين موسكو ودمشق مرحلة مختلفة نوعا. فالرجل القادم من المؤسسة العسكرية كان يدرك قيمة السلاح السوفيتي والدعم السياسي في معادلة الصراع مع إسرائيل. خلال سنوات قليلة، أصبحت موسكو المورد الأول للسلاح السوري، وزودتها بأنظمة دفاع جوي متطورة وطائرات ميغ وسوخوي، كما دعمتها في بناء منظومة أمنية قادرة على ضبط الداخل.
في السبعينيات والثمانينيات، تحولت سوريا إلى الحليف العربي الأوثق للاتحاد السوفيتي، خاصة بعد انحياز مصر للولايات المتحدة. قدم السوفييت دعما سياسيا كبيرا لدمشق في مجلس الأمن، ووقعت اتفاقيات تعاون في مجالات الاقتصاد والطاقة. في المقابل، منحت سوريا للاتحاد السوفيتي وجودا بحريا في ميناء طرطوس، أصبح مع الوقت القاعدة الروسية الأهم في المتوسط. لكن العلاقة لم تكن بلا توترات. فحافظ الأسد كان بارعا في إدارة توازنات معقدة، ولم يسمح لموسكو بالتدخل المباشر في قراراته الداخلية أو الإقليمية. كما أنه لم يقطع تماما مع الغرب، بل استخدم الورقة السوفيتية كورقة ضغط وموازنة. رغم ذلك، ظل التحالف مع موسكو ركيزة أساسية في بنية النظام السوري، لأنه وفر مظلة حماية عسكرية وسياسية في وجه أي تهديد خارجي.

مرحلة الأسد الابن: إعادة التموضع بين موسكو وواشنطن
عندما تسلم بشار الأسد الحكم، كانت روسيا قد خرجت لتوها من عقد التسعينيات المليء بالأزمات والانكماش. تغير العالم، وتبدلت أولويات موسكو، لكن سوريا ظلت بالنسبة لها نقطة ارتكاز تاريخية لا يمكن التفريط بها. في السنوات الأولى من حكمه، حاول الأسد الابن فتح قنوات مع الغرب وتحديث الاقتصاد، إلا أن الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 وازدياد الضغوط الأمريكية أعادا موسكو إلى الواجهة كحليف لا غنى عنه. بدأت العلاقة تعود إلى سابق عهدها: صفقات تسليح جديدة، تنسيق سياسي في الأمم المتحدة، وتفاهم غير معلن حول رفض إسقاط الأنظمة بالقوة. بلغ التحالف ذروته بعد عام 2015، عندما تدخلت روسيا عسكريا في سوريا بطلب من دمشق. كان ذلك أكبر تدخل روسي خارج حدود الاتحاد السوفيتي السابق منذ عقود. بالنسبة لموسكو، كان التدخل فرصة لإثبات عودتها كقوة عظمى قادرة على رسم خرائط الشرق الأوسط. وبالنسبة لدمشق، كان طوق نجاة أنقذ الدولة من الانهيار الكامل. ومنذ تلك اللحظة، تحولت العلاقة إلى شراكة وجودية تجمع الأمن بالسياسة بالاقتصاد.
مرحلة أحمد الشرع: من التحالف إلى الشراكة المشروطة

مع تولي أحمد الشرع الحكم، دخلت العلاقات السورية الروسية مرحلة أكثر براغماتية وأقل أيديولوجية. الشرع، الذي خبر السياسة الخارجية لسنوات طويلة، أعاد صياغة مفهوم التحالف مع موسكو من منطق التبعية إلى منطق المصالح المتبادلة. لم تعد العلاقة مقتصرة على السلاح والدفاع، بل توسعت نحو الاقتصاد والطاقة وإعادة الإعمار. فتحت روسيا شركاتها أمام السوق السورية، واستثمرت في المرافئ وحقول الغاز والنفط، بينما بدأت دمشق تنتهج سياسة توازن دقيق بين موسكو وبكين وطهران والعواصم العربية التي عادت للتقارب معها. في هذه المرحلة، أدركت موسكو أن نفوذها في دمشق لا يمكن ضمانه فقط عبر القواعد العسكرية، بل عبر حضور اقتصادي وثقافي طويل الأمد. وبدورها، أدركت القيادة السورية أن الاعتماد الكامل على موسكو قد يجعلها رهينة التحولات الدولية، فبدأت تنوع خياراتها مع الحفاظ على الخط الروسي بوصفه خط الأمان الأول.

طبيعة المصالح ومن المستفيد الأكبر
عبر هذه المراحل المتعاقبة، يمكن القول إن موسكو استفادت من دمشق أكثر مما استفادت دمشق من موسكو من حيث المكاسب الجيوسياسية. فروسيا حصلت على موطئ قدم دائم في المتوسط، وعلى ورقة ضغط في وجه الغرب، وعلى مختبر لتجريب أسلحتها وتثبيت حضورها في الشرق الأوسط. لكن دمشق، رغم كونها الطرف الأضعف اقتصاديا، حققت ما لم تحققه دول عربية أخرى: ضمان بقاء الدولة في أصعب الظروف، والحصول على غطاء سياسي يمنع إسقاطها، واستمرار نفوذها الإقليمي رغم كل العواصف. العلاقة بين البلدين لم تكن يوما علاقة تابع ومتبوع، بل علاقة مصلحة متبادلة يحكمها منطق البقاء. فروسيا ترى في سوريا نقطة توازن استراتيجي في وجه الناتو، وسوريا ترى في روسيا شريكا ضروريا لتثبيت استقرارها الداخلي وردع خصومها الإقليميين.
تحالف الضرورة وبقاء المعادلة
منذ ما قبل مرحلة الأسدين وحتى عهد أحمد الشرع، مرت العلاقة بين موسكو ودمشق بتحولات عميقة لكنها حافظت على خط واحد ثابت هو مبدأ المنفعة المتبادلة. لم تكن يوما علاقة عاطفية أو أيديولوجية خالصة، بل علاقة توازن بين الحاجة والسيادة. لقد استطاعت دمشق أن توظف الوجود الروسي بما يضمن بقاءها، واستطاعت موسكو أن تجعل من سوريا حجر الزاوية في عودتها إلى الشرق الأوسط. واليوم، في زمن تتغير فيه التحالفات بسرعة، يبقى هذا التحالف واحدا من أكثر العلاقات السياسية رسوخا واستمرارا في المنطقة، لأنه ببساطة يقوم على منطق لا يتغير: من يحتاج الآخر أكثر؟ والجواب بعد ثمانية عقود هو أن كل طرف بات يحتاج الآخر للبقاء في معادلة عالم لا مكان فيه للضعفاء.






