المرأة السورية من حالة الصمود إلى مشروع النهوض: بين الذاكرة النضالية ومتطلبات العدالة الانتقالية
فريق التحرير
لم تكن المرأة السورية يومًا على هامش المجتمع، بل لعبت أدوارًا محورية منذ العصور القديمة. فقد أظهرت بداية قصص نساء بعض المناطق العشائرية، كنساء دير الزور والرقة، أن القيادة لم تكن محصورة بالرجل دائمًا، بل ارتبطت بقدرة المرأة على المبادرة وصنع الفعل الاجتماعي والاقتصادي. وفي إدلب، عرف التاريخ قصص “أم فراس” التي نظمت التعليم للأطفال في المنازل أثناء سنين الثورة، فيما في حلب، ساهمت نساء مثل “أم علي” في الأسواق المحلية الصغيرة لتوفير الموارد للأسر المتضررة. هذه الأمثلة الرمزية تعكس استمرار دور المرأة كركيزة أساسية للمجتمع عبر التاريخ والحاضر، وتوضح أن صمودها ليس مجرد فعل يومي، بل استمرار لخط نضالي طويل.
مع الثورة السورية، تحولت هذه الذاكرة النضالية إلى فعل سياسي ملموس. فقد خاضت نساء مثل فدوى سليمان ومي سكاف معركة ضد الاستبداد، ليس فقط بالاحتجاج والمواجهة، بل من خلال حضورهن في الميدان الإنساني والثقافي، ليصبحن رموزًا للصمود والإبداع في مواجهة القمع. وفق تقرير هيومن رايتس ووتش لعام 2021، فقد تعرضت المئات من النساء المشاركات في العمل المدني للاعتقال أو التعذيب، لكن حضورهن لم ينكسر، بل ازداد قوة في الداخل والخارج على حد سواء.
المرأة والسياسة: التحدي والغياب
على الرغم من الدور البارز للمرأة السورية خلال الثورة، فإن حضورها اليوم في مواقع صنع القرار لا يزال محدودًا. هند قبوات تمثل الوزيرة الوحيدة في الحكومة الحالية، بينما في انتخابات مجلس الشعب الأخيرة هذا الشهر، نجحت أقل من عشر سيدات في الحصول على مقاعد. هذا الواقع يعكس فجوة كبيرة بين المشاركة المجتمعية للنساء خلال سنوات النزاع، وبين تمثيلهن الفعلي في السلطة السياسية، ويشير إلى أن العدالة الانتقالية لا يمكن تحقيقها دون معالجة هذا الغياب.
المجلس الاستشاري النسائي السوري (2016)، الذي دعمته الأمم المتحدة، أظهر كيف يمكن إدماج النساء في عمليات صنع القرار، من خلال طرح رؤاهن حول المعتقلين، والعودة الطوعية للنازحين، وإعادة الإعمار، مما يعكس الربط المباشر بين حضور المرأة في السياسة وتحقيق العدالة الاجتماعية. هذا الربط يوضح أن المرأة ليست فقط شاهدًا على المأساة، بل طرفًا فعالًا في مشروع العدالة الانتقالية، الذي يضمن المساواة ويقوي فرص التماسك الاجتماعي ويقلل احتمال تجدد النزاع.
بناء المستقبل: التعليم والتمكين والمشاركة
مشروع النهوض الوطني يتطلب الاستثمار في ثلاثة محاور متكاملة: التعليم، التمكين الاقتصادي، والمشاركة السياسية. في دير الزور، قامت نساء مثل “أم خالد” بتحويل بيوتهن إلى ورش عمل صغيرة لتعليم الخياطة وتأمين مصدر رزق للأسر النازحة، بينما في إدلب استمرت نساء مثل “أم فراس” في ضمان استمرار التعليم للأطفال، وفي حلب لعبت النساء دورًا في الأسواق المحلية لتخفيف العبء الاقتصادي على الأسر. هذه الأفعال اليومية الرمزية تمثل نواة مشروع نهوض حقيقي، يربط بين التمكين الفردي والمجتمعي.
العدالة الانتقالية
العدالة الانتقالية هنا ترتبط مباشرة بتمكين النساء. فغياب المرأة عن صنع القرار أو مناقشات إعادة الإعمار يعني استمرار التمييز والحرمان من الحقوق. إدماج النساء في العمليات السياسية والاجتماعية، كما فعلت المؤسسات النسائية والمنظمات مثل “رابطة عائلات قيصر” و”النساء من أجل العدالة في سوريا”، يعزز فرص بناء سلام شامل ومستدام.
مشروع السلام على أنقاض نصف المجتمع
في النهاية، تجاوزت المرأة السورية مرحلة الصمود السلبي لتدخل مرحلة النهوض الواعي. هي ليست مجرد شاهدة على المأساة، بل طرف فاعل في صياغة المستقبل، من خلال التعليم، التمكين الاقتصادي، والمشاركة السياسية، وربط تاريخها الاجتماعي والاقتصادي العميق بالعدالة الانتقالية. في سوريا الجديدة، لا يمكن أن يقوم مشروع السلام على أنقاض نصف المجتمع، بل على اتحاد الجهود في ترميم الذاكرة وبناء الثقة واستعادة الكرامة، مع وضع النساء في صلب هذا المشروع الوطني.
بين الماضي المثقل والمستقبل المجهول
وفي لحظةٍ تتأرجح فيها البلاد بين الماضي المثقل والمستقبل المجهول، تظل المرأة السورية العنصر الأكثر ثباتًا في معادلة التغيير، فهي التي حافظت على خيط الحياة في زمن الموت، وهي التي تُعيد اليوم نسج الحكاية، لا لتروي الألم فقط، بل لتكتب فصل النهوض في تاريخ سوريا الجديدة — سوريا العدالة والمساواة والسلام.
لكن، هل يمكن للمجتمع السوري أن يمنح نساءه الفرصة كاملة للقيادة وصنع القرار؟ وهل سيصبح حضور المرأة في السياسة جزءًا لا يتجزأ من بناء الدولة الجديدة؟ رغم صعوبة الطريق، يبقى الأمل حاضرًا، معلنًا أن كل خطوة نحو تمكين المرأة هي خطوة نحو سوريا أكثر عدلًا واستقرارًا.
مقالات قد تعجبك أيضاً






