هل تنجح النخبة الجديدة في كسر إرث السلطة القديمة؟

الكاتب : جُبير السكري

يشهد المشهد السوري، كما في تجارب كثيرة أعقبت سقوط الأنظمة الاستبدادية، جدلًا واسعًا حول طبيعة النخبة الجديدة التي تتصدر المرحلة الانتقالية، ومدى قدرتها على القطع مع منظومة الماضي التي أورثت البلاد أزماتها البنيوية. فالسؤال الجوهري اليوم لا يتعلق بتبدل الوجوه، بل بما إذا كانت بنية السلطة نفسها قابلة للتحول أم أنها ستعيد إنتاج ذاتها بأدوات وأسماء جديدة.

إرث ثقيل من الماضي

ليس من السهل هدم ذهنية حكم تشكلت خلال نصف قرن في بضعة أشهر. على مدى عقود، قامت السلطة السابقة على منظومة مركزية مغلقة احتكرت القرار السياسي، وأفرغت المؤسسات من مضمونها، وربطت الولاء بالنجاة الفردية لا بالمصلحة العامة.

ذلك الإرث لم يكن مجرد شبكة أشخاص، بل ثقافة حكم متجذرة في الوعي الإداري والعسكري والاقتصادي، جعلت مفهوم الدولة يتماهى مع إرادة السلطة. لذلك، فإن النخبة الجديدة لا تواجه فقط ملفات سياسية مؤجلة، بل ذهنيات متجذرة داخل الجهاز البيروقراطي والأمني وطبقات المصالح التي تشكلت عبر نصف قرن من الاستبداد.

بين الطموح والقيود

بعد سقوط النظام، برزت نخب متعددة المشارب:

  • منها من انخرط في العمل العام بدافع التجديد وبناء دولة مدنية.
  • ومنها من جاء من رحم النظام ذاته، باحثًا عن إعادة التموضع ضمن المعادلة الجديدة.

هذا التداخل جعل حدود القديم والجديد ضبابية، وفتح الباب أمام صراع ناعم على تعريف التغيير ذاته. ورغم أن القيادة الجديدة رفعت شعارات العدالة والشفافية والإصلاح، إلا أن قدرتها الفعلية على تجاوز إرث الماضي ما تزال رهينة موازين القوة داخل مؤسسات الدولة، حيث لا تزال بعض البنى القديمة تملك أدوات النفوذ والقرار غير المعلن.

معركة الوعي لا تقل أهمية عن معركة المؤسسات

الثورة الحقيقية ليست فقط في الشارع، بل في الوعي الذي يدير الدولة بعد الثورة.

لا يكفي أن تتبدل القيادات لتولد دولة جديدة؛ فالتغيير الحقيقي يحتاج إلى إعادة بناء وعي سياسي ومدني يؤمن بالمواطنة والمحاسبة لا بالزعامة والولاء.

النخبة الجديدة اليوم أمام امتحان مزدوج:

  1. تفكيك بنية الاستبداد المؤسسي: أي تفكيك القوانين والأجهزة والعلاقات التي كانت تكرس الهيمنة.
  2. تحصين المجتمع من إعادة إنتاجها: لأن أخطر ما يهدد التحول هو التعايش بين خطاب التغيير وممارسة الماضي

حين ترفع الشعارات التقدمية بأدوات سلطوية قديمة، تصبح الثورة دائرةً مغلقة تدور حول ذاتها، دون أن تتقدم خطوة واحدة إلى الأمام.

دروس وأمثلة

جنوب إفريقيا: تجاوزت مرحلة الفصل العنصري عبر لجان الحقيقة والمصالحة، التي قدمت الاعتراف قبل العقاب.

العراق: سقط في فخ الاجتثاث الكامل، ففقد الكفاءات واستمر الفساد بأسماء جديدة.

تونس: أسست مسارًا انتقاليًا طموحًا، لكن غياب الإرادة السياسية أضعفه لاحقًا.

من هذه التجارب نستخلص أن:

العدالة لا تعني الثأر

الإصلاح لا يكون بهدم الدولة، بل بإعادة تعريفها

شروط النجاح أو الفشل

نجاح النخبة الجديدة في كسر إرث السلطة القديمة يتوقف على مدى قدرتها على تحقيق مجموعة من الشروط الجوهرية:

  1. استقلال القرار السياسي عن شبكات النفوذ القديمة والولاءات الشخصية.
  2. تأسيس منظومة عدالة انتقالية لا تقوم على الانتقام، بل على الإنصاف والمصالحة المجتمعية.
  3. إعادة بناء مؤسسات الدولة على أساس الكفاءة لا الولاء، مع اعتماد معايير شفافة في التعيينات والإدارات.
  4. تحقيق توازن بين الاستقرار والإصلاح، دون الخضوع لابتزاز الماضي أو الخوف من التغيير.
    وفي المقابل، فإن الفشل في تحقيق هذه الشروط سيعني أن النظام البائد لم يسقط فعليًا، بل تقمص شكلًا جديدًا باسم التغيير.
الطريق إلى القطيعة الحقيقية

القطيعة مع إرث الاستبداد لا تتم بقرار فوقي أو بتعيين وجوه شابة في المناصب، بل بإعادة تعريف السلطة ذاتها:

من سلطة تسلّط إلى سلطة خدمية،

ومن دولة الفرد إلى دولة العقد الاجتماعي.

حين تدرك النخبة الجديدة أن الشرعية تبنى من الشعب وللشعب، وأن قوتها الحقيقية تأتي من الناس لا من الأجهزة، عندها فقط يمكن القول إن سوريا دخلت عصر الدولة لا السلطة.

في الختام

كسر إرث السلطة القديمة هو معركة طويلة تتطلب وعيًا وإرادة سياسية ومؤسسات قوية قادرة على حماية التغيير من التحريف.

فلا مستقبل لأي نخبة لا تملك شجاعة مواجهة ذاتها، ولا معنى لثورة لا تغير في عمق مفهوم الحكم ذاته. وفي النهاية، إما أن تنتصر قيم الدولة الحديثة، أو يعود التاريخ ليكتب نفسه بحروف الماضي.