متاهة تعافي الاقتصاد السوري في مرحلة ما بعد الحرب
الكاتبة : حنان حوراني
بعد أكثر من عقد على انطلاق الشرارة السورية لم يعد التحرير هو الرمز الوحيد للانتصار، بل برزت معركة بناء الدولة كالتحدي المهيمن على المشهد، وساحة القتال لم تعد هي المسرح الوحيد للمواجهة، بل تحولت من الحِراب المسلح إلى معترك اقتصادي وجودي قد يكون من أهم وأخطر جولات الصراع في مرحلة ما بعد النزاع.
لا يزال الاقتصاد السوري يتخبط في حالة تشظٍ شبه كلي بين تأثير العقوبات التي كانت بمثابة شلل تام في جسد الاقتصاد، وعامل تضخيم للأزمات الهيكلية المزمنة من انزياح كارثي في سعر صرف العملة، ودمار واسع للبنى التحتية، وتفشي آفة البطالة بين مختلف شرائح المجتمع، وانفلات مهول لأسعار السلع الأساسية أدى إلى تآكل مدوٍ في القوة الشرائية للمواطنين. هذه العوامل المتشابكة تتفاعل في حلقة مفرغة تدفع بأغلب السوريين إلى تحت خط الفقر، حيث أضحى هاجس البقاء على قيد الحياة هو الشغل الشاغل لهم.
أولاً: مقومات النهضة – البذور الأولى للنمو الاقتصادي
رغم الأزمات التي مر بها الاقتصاد السوري ما زالت سوريا تمتلك مجموعة من المقومات الهيكلية القادرة على تشكيل نواة صلبة لعملية التعافي وإطلاق ديناميكية النهوض الاقتصادي. هذه المقومات قد تكون مفتاحًا في إعادة بناء الاقتصاد السوري إذا تم استثمارها بالشكل الصحيح، وأبرزها:
الموقع الجغرافي الاستراتيجي – ميزة تنافسية فريدة
تمتلك سوريا موقعًا جيوستراتيجيًا مميزًا في الشرق الأوسط، فهي نقطة وصل بين قارات آسيا وأوروبا وأفريقيا، مما يؤهلها لتصبح مركزًا لوجستيًا وإقليميًا للتجارة والنقل، وهذه الميزة يمكن تحويلها إلى رافعة اقتصادية تجذب الاستثمارات وتعيد إحياء دور البلاد كجسر تجاري حيوي.
رأس المال البشري – القوة الدافعة للنهضة
ما يزال الشعب السوري يمتلك رصيدًا بشريًا نوعيًا رغم تداعيات الهجرة، حيث يضم كفاءات عالية في مجالات متنوعة. يشكل هذا الرأسمال البشري الحجر الأساس لأي مشروع إعادة إعمار، ويمكن تعظيم منفعته عبر آليات استقطاب العقول واستعادة الكفاءات الشابة.
رصيد الموارد الطبيعية – قاعدة إنتاجية واعدة
رغم الاستنزاف ما زالت سوريا تحتفظ باحتياطيات مهمة تتمثل في النفط والغاز والفوسفات والمعادن، إلى جانب مساحات زراعية خصبة تحتاج إلى الاستصلاح. تشكل هذه الموارد القاعدة المادية لإطلاق قطاعات إنتاجية حيوية قادرة على تحقيق فائض تصديري وأمن غذائي مستدام.
القطاع السياحي – الإرث الحضاري الفريد
رغم الدمار الكبير الذي تعرض له قطاع السياحة، كانت سوريا سابقًا وجهة مهمة في الشرق الأوسط، وتمتلك مواقع أثرية متميزة يمكن أن تعزز السياحة الثقافية وتعيد للبلاد مكانتها كقطب سياحي رائد في حوض المتوسط قادر على تحقيق عوائد مالية كبيرة.
البنية التحتية للاتصالات – رافعة للتحول الرقمي
رغم التحديات الجسيمة التي تواجه البنى التحتية التقليدية، شهد قطاع الاتصالات بعض التحديثات التقنية في توسع نطاق انتشار خدمات الإنترنت والاتصالات المتنقلة، مما يوفر فرصًا للتحول إلى الاقتصاد الرقمي، ويمكن تطوير التجارة الإلكترونية والبرمجيات لتصبح جزءًا أساسيًا من الاقتصاد الوطني.
التحويلات المالية من المغتربين
رغم الصعوبات يظل للمغتربين السوريين دور رئيسي في دعم الاقتصاد، إذ تصل التحويلات المالية من الخارج إلى مستويات عالية وتعد أحد المصادر الأساسية للدخل لدى كثير من الأسر.
القطاع الصناعي التقليدي
قبل الحرب كان لسوريا قاعدة صناعية متوسطة خاصة في الصناعات الغذائية والنسيج والأدوية. رغم التدهور، يمكن إعادة إحيائها من خلال إعادة تأهيل المصانع، وتقديم الدعم الفني والتمويلي للصناعات الصغيرة والمتوسطة، وتوسيع قطاع الصناعات الغذائية لتحقيق الاكتفاء الذاتي وتقليل الاعتماد على الواردات.
الأسواق المحلية والإقليمية – سعة استيعابية كبيرة
تمتلك سوريا سوقًا استهلاكية ضخمة متعطشة تخلق طلبًا مستدامًا على مختلف السلع والخدمات، إضافة إلى قربها من أسواق إقليمية كبيرة توفر حاضنة طبيعية للصناعات المحلية وتعزز فرص التكامل الاقتصادي الإقليمي والعالمي.
ثانياً: معوقات النهضة وتشريح أبرز تحديات التعافي الاقتصادي – في قلب العاصفة
رأس المال البشري – القوة الدافعة للنهضة
تتمثل المعوقات أمام الاقتصاد السوري حاليًا في شبكة من المشاكل الهيكلية والسياسية والأمنية، من أبرزها:
غياب الاستقرار الأمني والقانوني
استمرار العمليات العسكرية وتفشي الفوضى الأمنية أديا إلى انهيار النظام القانوني في بعض المناطق، مما قضى على فرص جذب الاستثمارات وزعزع الثقة بمستقبل البلاد، ووضع الاقتصاد الوطني في مهب الخطر.
أزمة السيولة والنظام المصرفي المتداعي
انهيار الليرة السورية ونقص السيولة الأجنبية والتعقيدات المصرفية أدت إلى انكماش كارثي في النشاط الاقتصادي وصعوبة تحقيق النمو أو الانتعاش.
التدخلات الخارجية
تداخل أجندات القوى الإقليمية والدولية على النفوذ في سوريا أدى إلى تشظي السيادة الاقتصادية وتعقيد الأوضاع الداخلية وإدخال البلاد في متاهات التبعية.
تدهور القطاع الإنتاجي
تحول الاقتصاد السوري من منتج يعتمد على الزراعة والصناعة إلى اقتصاد ريعي قائم على الاستيراد والسمسرة، ما أفقد البلاد اكتفاءها الذاتي وقدرتها التصديرية.
انهيار البنية التحتية
تدمير المرافق الحيوية من طرق وجسور وموانئ ومحطات كهرباء ومصانع أدى إلى تعطيل قدرة الاقتصاد على الإنتاج والتوزيع وتحويله إلى حالة من الشلل والاعتماد على الخارج.
التفكك الاجتماعي وزوال الطبقة الوسطى
أدى الفقر المدقع إلى اختفاء الطبقة الوسطى التي كانت تمثل العمود الفقري للاقتصاد والمحرك الحيوي للاستهلاك والإنتاج، مما عمق الفجوات الطبقية وأضعف العدالة الاجتماعية.
التضخم وارتفاع الأسعار
يشكل التضخم المستمر ضغطًا كبيرًا على ذوي الدخل المحدود، ويزيد انهيار العملة تكلفة الواردات ويضعف القدرة الشرائية للمواطنين.
الفساد والمحسوبية
رغم محاولات مكافحته ما زال الفساد قائمًا، ينهش موارد الدولة ويدمر الثقة في البيئة الاستثمارية ويجعل أي إصلاح مجرد سراب.
تدهور التعليم
أدت الحرب إلى تدمير قطاع التعليم، ما تسبب في نقص الكفاءات والمهارات الداعمة للصناعة والتكنولوجيا.
ما يزال الشعب السوري يمتلك رصيدًا بشريًا نوعيًا رغم تداعيات الهجرة، حيث يضم كفاءات عالية في مجالات متنوعة. يشكل هذا الرأسمال البشري الحجر الأساس لأي مشروع إعادة إعمار، ويمكن تعظيم منفعته عبر آليات استقطاب العقول واستعادة الكفاءات الشابة.
ثالثاً: آليات واستراتيجيات تحقيق النهضة الاقتصادية – خرائط الطريق
إحياء الاقتصاد السوري يتطلب خطة واضحة وآليات تنفيذ فورية، تقوم على ما يلي:
تحقيق الاستقرار السياسي والأمني
لا يمكن تحقيق النمو دون تسوية سياسية حقيقية وإنهاء النزاع عبر عملية شاملة ومعترف بها دوليًا، مع استعادة سلطة الدولة وتفكيك الميليشيات وتشكيل قوات أمنية مهنية تحفظ النظام.
إعادة إعمار البنية التحتية
- قطاع الطاقة: إعادة بناء محطات الكهرباء وشبكات التوزيع، مع التركيز على الطاقة المتجددة.
- النقل والمواصلات: تأهيل الطرق والجسور والسكك الحديدية والمطارات لضمان حركة البضائع والأفراد.
- المرافق الأساسية: إعادة بناء المستشفيات والمدارس وشبكات المياه والصرف الصحي لتحسين مستوى المعيشة.
إصلاح النظام المالي والمصرفي
إعادة هيكلة النظام المصرفي لتعزيز استقرار العملة وضمان قدرة البنوك على تمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وضبط التضخم عبر سياسات نقدية منضبطة لضمان بيئة اقتصادية مستقرة.
الاستثمار في القطاعات الإنتاجية
توجيه الاستثمارات نحو الزراعة والصناعة لتقليل الاعتماد على الواردات وتحقيق الأمن الغذائي والصناعي، مع دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة وتوفير بيئة قانونية مرنة تشجع الابتكار.
إصلاح التعليم والتدريب المهني
تعزيز التعليم المهني والتقني لتلبية احتياجات سوق العمل، وتدريب الشباب على ريادة الأعمال لتمكينهم من إطلاق مشاريعهم الخاصة.
تعظيم الاستفادة من التحويلات المالية
تحفيز المغتربين على تحويل مدخراتهم إلى استثمارات داخل البلاد من خلال تأسيس شركات أو شراء أصول إنتاجية.
جذب الاستثمارات الخاصة والدولية
إصلاح التشريعات لتوفير بيئة آمنة وجاذبة للمستثمرين، وإنشاء مناطق اقتصادية خاصة بنظام ضريبي ميسر، وتشجيع الشراكات بين القطاعين العام والخاص.
تعزيز الاستدامة والبيئة
الاعتماد على الطاقة الشمسية وطاقة الرياح كبدائل فعالة، وإعادة تأهيل الأراضي الزراعية وتحسين إنتاجيتها عبر الزراعة المستدامة.
تعزيز الابتكار والتكنولوجيا
تشجيع ريادة الأعمال الرقمية والاستثمار في قطاع التكنولوجيا لدعم الاقتصاد الرقمي وخلق فرص عمل جديدة.
في النهاية، يمثل تعافي الاقتصاد السوري تحديًا ضخمًا يتطلب إرادة سياسية حقيقية، وإصلاحات هيكلية جريئة، وشراكة فاعلة مع المجتمع الدولي من أجل بناء اقتصاد منتج ومستدام يقوم على أسس الحوكمة الرشيدة ويؤسس لمستقبل مزدهر للأجيال المقبلة.
مقالات قد تعجبك أيضاً






