سوريا بين سقوط دولة الاستبداد وولادة الدولة الانتقالية: قراءة في أول انتخابات لمجلس الشعب بعد الثورة
الكاتبة صفا عبد التركي
لم يكن سقوط نظام بشار الأسد حدثًا سياسيًا عابرًا في تاريخ سوريا، بل لحظة تحول مفصلي أعاد تعريف الدولة، والسلطة، والشرعية. فبعد أكثر من نصف قرن من حكم الفرد والعائلة، واحتكار القرار الوطني من قبل منظومة أمنية مغلقة، وجدت البلاد نفسها أمام فراغ سياسي حاد تطلب إعلانًا دستوريًا انتقاليًا ينظم المرحلة، لكنه في جوهره جاء مثقلًا بإرث الصراع وبتوازنات القوى التي فرضتها سنوات الحرب.
هذا الإعلان الدستوري، رغم أنه شكل أساسًا قانونيًا لإدارة الدولة بعد انهيار مؤسسات النظام القديم، إلا أنه لم يخلُ من إشكاليات الشرعية السياسية. فالإعلان لم ينبثق عن عملية استفتاء شعبي، بل جاء نتاج توافق بين قوى المعارضة والهيئات الانتقالية المدعومة دوليًا، ما جعله أقرب إلى اتفاق سياسي من كونه عقدًا اجتماعيًا جديدًا. ومع ذلك، فقد وفر الحد الأدنى من الاستقرار المطلوب للانتقال من مرحلة الثورة إلى مرحلة بناء الدولة.
الدولة السابقة: حين كان “البرلمان” واجهة للأسد
في سوريا ما قبل السقوط، لم يكن مجلس الشعب سوى امتداد للمخابرات، ومنبرًا لشرعنة قرارات القصر الجمهوري. كانت عضويته تُمنح وفق الولاء لا الكفاءة، والتمثيل فيه يعكس توازنات حزب البعث والأجهزة الأمنية لا الإرادة الشعبية.
حتى تمثيل النساء، الذي كانت السلطة تروج له كدليل “تحرر وتقدم”، لم يكن أكثر من ديكور سياسي، فالنسبة التي تجاوزت 13% عام 2020 لم تعكس تمكينًا حقيقيًا، بل حضورًا رمزيًا موجهًا يخدم صورة النظام في الخارج.
الدولة الجديدة: شرعية ناقصة لكنها واقعية
مع سقوط النظام، وبدء المرحلة الانتقالية بقيادة الرئيس أحمد الشرع، تحول النقاش إلى جوهر الشرعية: من يملك الحق في تمثيل السوريين بعد كل هذا الخراب؟
الإعلان الدستوري منح السلطة التنفيذية صلاحيات مؤقتة لتشكيل حكومة انتقالية، تُعد لانتخابات تشريعية هي الأولى منذ أكثر من نصف قرن تُجرى خارج وصاية الأمن والحزب الواحد.
رغم محدودية القاعدة الانتخابية – إذ اقتصرت على الهيئة الناخبة التي تمثل مناطق النفوذ المستقرة وتجمعات المهجرين المسجلين – إلا أن العملية الانتخابية وصفت بأنها خطوة مفصلية في التحول الديمقراطي السوري
تشكيل الوزارات وبداية التحول الإداري
الحكومة التي تشكلت بعد السقوط حاولت كسر مركزية السلطة التي كانت جوهر الدولة الأسدية، عبر توزيع الصلاحيات بين الوزارات وتوسيع مشاركة الكفاءات المستقلة. ومع ذلك، بقيت التحديات كبيرة، أبرزها ضعف المؤسسات، وتداخل الولاءات بين العسكري والسياسي، والانقسام المجتمعي العميق الناتج عن الحرب.
وفي ظل هذا المشهد، جاءت انتخابات مجلس الشعب كمحاولة لترسيخ أول مظهر للشرعية الشعبية الجديدة.
انتخابات مجلس الشعب: بين الواقع والطموح
الانتخابات الأخيرة لم تكن مثالية، لكنها كانت حقيقية. ورغم أنها لم تشمل كل السوريين، إلا أنها مثلت تحولًا نوعيًا في الوعي السياسي العام.
اللافت أن أبناء الثورة تصدروا الترشيحات والنتائج في معظم المحافظات. شخصيات كانت قبل سنوات مطاردة ومعتقلة، أصبحت اليوم داخل البرلمان، تتحدث باسم شعبٍ حلم بالديمقراطية ودفع من أجلها أكثر من مليون شهيد ومئات الآلاف من المعتقلين والمختفين قسرًا.
ورغم الفرح العام الذي رافق العملية الانتخابية، فإن الغياب الواضح للنساء شكل علامة استفهام كبرى. فمن أصل أكثر من 250 مقعدًا، لم تفز سوى ست نساء فقط (واحدة من عفرين، وأخرى من حمص، واثنتان من طرطوس، وواحدة من اللاذقية، وأخرى من حماة).
هذا التراجع مقارنة بتمثيل النساء في برلمانات النظام السابق يعكس خللًا عميقًا في البيئة السياسية والاجتماعية الجديدة، وهو ما أكده دبلوماسيون أوروبيون دعوا الرئيس الشرع إلى معالجته عبر التعيينات الرئاسية.
تصريحات دولية ومؤشرات سياسية
القائم بأعمال السفارة الألمانية في دمشق، كليمنس هاخ، وصف الانتخابات بأنها “خطوة مهمة جدًا في المرحلة الانتقالية”، مضيفًا أن “الرئيس الشرع لديه فرصة لتصحيح أي اختلالات في العملية الانتخابية”، في إشارة واضحة إلى التمثيل النسائي الضعيف وغياب بعض المكونات الاجتماعية.
أما الرئيس أحمد الشرع نفسه، فقد أكد خلال زيارته لمراكز الاقتراع أن “سوريا دخلت خلال بضعة أشهر قليلة في عملية انتخابية تتناسب مع الظرف الذي تمر به”، مشددًا على أن المرحلة القادمة ستشهد “تسريع عجلة التشريع والمراقبة على الحكومة لضمان الشفافية والمساءلة”.
بين الفرح والذاكرة
ورغم الطابع الرسمي للعملية، فإن المشهد الشعبي كان مفعمًا بالعاطفة.
فقد تداول السوريون على مواقع التواصل مقاطع لثوار سابقين يبكون أثناء الإدلاء بأصواتهم أو لحظة إعلان فوزهم. كانت دموع الفرح تمتزج بذاكرة الفقد، وكأن التصويت نفسه صار طقسًا من طقوس النصر الرمزي على القهر.
ولم تخلُ الأجواء من هتافات الثورة القديمة، وشعارات تؤكد أن “آل الأسد إلى زوال”، في مشهد أعاد الاعتبار للوجدان الجمعي للسوريين بعد سنوات من الإقصاء.
تعيينات الشرع والفرصة الأخيرة
اليوم، تتجه الأنظار إلى الرئيس أحمد الشرع الذي يمتلك، وفق المادة 56 من الإعلان الدستوري، صلاحية تعيين ثلث أعضاء مجلس الشعب.
هذه التعيينات المرتقبة ليست مجرد استكمال شكلي، بل فرصة حقيقية لسد الثغرات البنيوية في العملية الانتخابية، سواء عبر تمثيل النساء والمكونات المهمشة، أو عبر إدخال شخصيات تكنوقراطية تضمن التوازن التشريعي المطلوب في المرحلة الانتقالية.
من الثورة إلى الدولة
إن أول انتخابات بعد سقوط النظام ليست نهاية الطريق، بل بدايته.
الشرعية في سوريا اليوم لا تُقاس بعدد الصناديق، بل بمدى قدرة هذه المؤسسات الجديدة على التحول من رمزية الثورة إلى واقعية الدولة.
البرلمان المنتخب – رغم محدوديته – هو أول مؤسسة وُلدت من رحم الثورة، لا من رحم الأجهزة الأمنية، وأغلب أعضائه عاشوا تجربة الحرب والنزوح والمخيم، ما يمنحهم حسًا واقعيًا بقيمة السلام والعدالة.
قد لا تكون هذه الدولة مكتملة الشرعية بعد، لكنها بالتأكيد أكثر شرعية من أي كيان حكم سوريا خلال نصف قرن.
فالثورة التي حلمت بالديمقراطية بدأت تلمس ملامحها، ولو بخطى بطيئة.
وما جرى اليوم لم يكن مجرد انتخابات، بل تدشينًا لعقد اجتماعي جديد كتبته دماء السوريين ودموعهم معًا.
لكن السؤال الذي يبقى مفتوحًا أمام السوريين جميعًا هو:
هل ستنجح هذه التجربة الوليدة في تحويل لحظة الانتصار الرمزي إلى مشروع وطني جامع، أم سنكتشف أن الطريق من الثورة إلى الدولة ما زال أطول مما ظننا؟