الحصاد المر: الرقة بعد 8 سنوات من حكم "قسد"
الرقة، المدينة التي مرّت بكل أشكال العنف، من بطش النظام، إلى بربرية “داعش”، تبدو اليوم — في لحظة كان يُفترض أن تكون مرحلة تعافٍ — أكثر تعبًا وانهاكًا من أي وقت مضى. بعد ثمان سنوات من سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) على المدينة، يتحدث أبناؤها بمرارة عن واقع متدهور في كل شيء: خدمات، أمن، مؤسسات، وحتى الأمل.
منذ لحظة وصولي الى الرقة، ٢٦/٧/٢٠٢٥، لم ألتقِ أحدًا إلا وكان غاضبًا، محبطًا، ساخطًا، أو صامتًا. جميعهم قالوا بصيغ مختلفة: “قسد لا تمثلنا… ولا تهتم بنا”.. لم التق بأحد يحب قسد مطلقا!
مشهد مدينة تُهدر يوميًا
الرقة اليوم ليست المدينة التي عرفناها. شوارعها غارقة في القمامة، ومياهها ملوثة، وكهرباؤها تأتي ساعات قليلة، إن أتت. مشاريع البنية التحتية متوقفة أو تُدار بارتجال، والنظام الإداري بأكمله قائم على الولاء والمحسوبيات، وليس على الكفاءة.
في قلب المدينة، الطرق الرئيسية أشبه بحقول تدريب دبابات، مليئة بالحفر والمطبات. سألت أكثر من مرة إن كانت هذه الشوارع قد تعرضت لقصف، والجواب كان دائمًا: “لا، فقط الإهمال فعل ذلك”. لا بل أن كثيرين قالوا بمرارة: “ربما أيام داعش كانت الشوارع أنظف”.
القمامة متراكمة في كل زاوية. لا سيارات نظافة منتظمة، وإن وُجدت، فهي تعمل بطريقة بدائية. في بعض الأحياء، تصادف كومة قمامة بجانب مدرسة، أو مستشفى.






الكهرباء في الرقة: بين الاحتكار والمحسوبية والتلوث
الرقة اليوم تعيش في ظلام طويل يمتد لأكثر من 20 ساعة في اليوم. الكهرباء لا تزور معظم الأحياء إلا لأربع ساعات، وفي بعض المناطق لا تتجاوز الساعتين. كل من التقيتهم في المدينة أكدوا أن لا أعطال حقيقية في سد الفرات، وأن التراجع في منسوب مياه النهر ليس بالحجم الذي يبرر هذا الانهيار الكامل في الخدمة.
لكن الكهرباء ليست مفقودة تمامًا. في الأحياء التي يسكنها مسؤولون محليون أو أشخاص محسوبون على “قسد”، لا تنقطع الكهرباء أبدًا. هناك أحياء تتمتع بخدمة 24/24 ساعة — حرفيًا — ما أثار سخط السكان الذين يرون في ذلك مظهرًا صارخًا من التمييز والفساد الإداري.
في المقابل، يعتمد معظم سكان المدينة على ما يُعرف محليًا بـ “الأمبيرات”، وهي مولدات كهرباء ضخمة يمتلكها تجّار مرتبطون بقسد، منتشرة في أغلب الشوارع. صوتها مزعج، ودخانها يملأ الأحياء، مسببة تلوثًا كبيرًا ومشاكل صحية، خاصة للأطفال وكبار السن. هذه المولدات تُدر أرباحًا هائلة لأصحابها، وتحوّلت إلى مصدر طاقة بديل باهظ الثمن لا يمكن للجميع تحمّله.
قال لي أحد سكان حي البستان:
“ندفع كل شهر أكثرمن فاتورة واحدة على الكهرباء: الأمبيرات، بالإضافة الى “فاتورة الدولة” ومع ذلك لا نقدر على تشغيل كل شيء. أما بيوتهم – يقصد مسؤولي قسد- فلديهم كهرباء لا تنقطع ولا يدفعون ليرة.”
ما يفترض أن يكون خدمة عامة، أصبح سوقًا سوداء، وسلعة يتحكم بها المتنفذون. وفي ظل غياب أي مساءلة، تحوّلت الكهرباء من حقٍّ أساسي إلى أداة ضغط، ووسيلة للربح، ورمز صارخ لانعدام العدالة في توزيع الموارد.
مياه الفرات… ملوثة
المفارقة أن الرقة، المستلقية على ضفاف نهر الفرات، باتت اليوم عطشى. المياه حين تصل — بحسب سكان كثر — تكون ملوثة، وتسبّبت في انتشار أمراض جلدية ومعوية، خصوصًا بين الأطفال. بعض الأحياء لا تصلها المياه لعدة أيام. وعندما سألت أحد الفنيين المحليين عن السبب، أجاب:
“لا مشكلة في المحطات… فقط لا توجد صيانة، ولا إدارة، ولا توزيع عادل”.
سكان المدينة، الذين اعتادوا على وفرة المياه، يشعرون اليوم بالمهانة حين لا يستطيعون ملء خزان واحد في يوم صيفي.







من يحرر… يقرر
من أكثر العبارات تداولًا في الرقة اليوم: “من يحرر يقرر”. وهي تعني ببساطة أن من قاتل مع “قسد” أو خدم مصالحها هو من يتولى المناصب، مهما كانت مؤهلاته. أحد الأمثلة الصارخة على ذلك هو مديرة التربية والتعليم، التي — بحسب شهادات متعددة — لا تحمل أي مؤهل تربوي، وكانت قبل دخول “قسد” تمتهن بيع الخضار. وهذا لا يُقال ازدراءً بالمهن، بل احتجاجًا على تحويل القطاع التعليمي إلى مجال للمكافآت السياسية، لا للإصلاح أو بناء الأجيال. كثير من المعلمين المؤهلين أُقصوا، أو انسحبوا، بسبب التمييز السياسي أو ضعف الرواتب، وغياب بيئة العمل.
فساد بنيوي… كل شيء للبيع
كل من تحدثت معهم عن المشاريع والخدمات والموارد أجابوا بالعبارة نفسها:
“كل شيء يُدار بعقلية الغنيمة”.
منذ عام 2017، دخلت مئات ملايين الدولارات إلى مناطق “قسد” عبر تمويل دولي ومشاريع تنموية، لكن لا أحد يعرف أين ذهبت.
لكن من يعيش في الرقة يرى الحقيقة: لا طرق معبّدة، لا بنى تحتية جديدة، لا مؤسسات شفافة، ولا رقابة. معظم العقود تُسلَّم لشركات يملكها مقربون من قيادات قسد. كل قطاع محكوم بدائرة مغلقة من المنتفعين. سألت الكثير من الناشطين “من أضاء هذا الشارع؟” أو من رمم هذا الأثر التاريخي؟” تأتي الإجابة أن “الفرنسيين” أو “البلجيكيين” هم من مول هكذا أعمال ومشاريع. معظم المباني الحكومية التي تم تدميرها من قبل قوات التحالف الدولي في حربهم على داعش عام ٢٠١٧، قيل لي بأن التحالف اعطى الأموال اللازمة لإعادة اعمار تلك المباني. بدلا من ذلك، اقامت قسد مباني ضخمة عند مدخل الرقة الغربي، مسورة بالكامل ولايمكن من الاقتراب منها، وبعض الأبنية الأخرى على الطريق الواصل الى الجسر القديم على نهر الفرات. أما فيما يتعلق بالأبنية الحكومية القديمة والواقعة في شارع الاماسي، فلقد عاينتها بنفسي، أضحت مكبا للقمامة.
الأمن والسجون: قسد تحكم بالخوف… لا بالقانون
قد تبدو الرقة اليوم أكثر هدوءًا من سنوات الحرب، لكن هذا “الهدوء” هشّ، ومضلّل. فهو لا يعكس استقرارًا حقيقيًا، بل خوفًا مكتومًا يسود المدينة. ففي ظل حكم “قسد”، تحولت الحياة اليومية إلى معادلة خفية: كلما اقتربت من السياسة أو عبّرت عن رأيك، اقتربت من “الخطر الصامت”.
السكان يتحدثون عن شبكة معقدة من السجون والمراكز الأمنية، تشبه إلى حد كبير تلك التي عرفها السوريون لعقود في ظل نظام البعث، لكن بأساليب أقل علنية وأكثر غموضًا.
قال لي ناشط سابق، بصوت منخفض:
“اعتُقلتُ لأنني كتبت منشورًا على فيسبوك. مجرد انتقاد صغير عن النظافة… قضيت شهرين دون تهمة، دون تحقيق، ودون أن يعرف أحد أين أنا.”
خارطة السجون في ظل "قسد"
تقنيات الاعتقال: نفس الأدوات القديمة، لكن بأسماء جديدة
إعلام صامت… وقضاء غائب
السجن كأداة للهيمنة
النتيجة؟ مجتمع مدني مشلول، يشتغل تحت السقف المسموح فقط، بلا حيوية، ولا استقلال، ولا قدرة على إحداث أثر حقيقي. كثير من الطاقات الشابة انسحبت، أو غادرت، أو اختارت الصمت. الرقة اليوم بلا حياة مدنية حقيقية، بل فقط “ديكور” لجذب تمويل خارجي يُعاد تدويره ضمن قنوات السلطة.
أين تذهب الرقة؟
تأمل شخصي: من الصمت إلى النقد
خاتمة: لماذا يكره الرقاويون “قسد”؟
مقالات قد تعجبك أيضاً

